الهدف الأول والرئيسي للقمة الأوروبية الأخيرة هذا العام، والوحيدة قبل عودة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، إلى البيت الأبيض، عنوانه «بلورة استراتيجية أوروبية مشتركة» للضغط على ترمب وحثه على عدم التخلي عن أوكرانيا من جهة؛ ومن جهة ثانية التوافق على تحرك من شأنه أن يوفر الدعم لكييف.
وتأتي القمة فيما تلوح في الأفق احتمالية العودة، هذا العام، إلى طاولة المفاوضات. فالرئيس الروسي أكد، في مؤتمره الصحافي التقليدي، الخميس، أن بلاده مستعدة للعودة إلى المحادثات مع أوكرانيا، ولإبرام تسويات، «لكنها تحتاج إلى أن يكون الطرف الآخر (أوكرانيا) مستعداً لها أيضاً». وبرر ذلك بتأكيده أن قواته بصدد التحرك لتحقيق «الأهداف الأساسية» للحرب في أوكرانيا، ولكن من غير تفصيل ما يعنيه ذلك.
في المقابل، يتطلع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الذي حضر ليومين في بروكسل من أجل المشاركة في اجتماعين رئيسيين؛ الأول في إطار «حلف شمال الأطلسي (ناتو)» والثاني في سياق القمة الأوروبية، هو الآخر إلى نهاية الحرب. وفي تسجيل فيديو وجهه الثلاثاء إلى اجتماع للدول المشاركة في ما تسمى «قوة التدخل السريع المشتركة»، التي تضم بريطانيا ودول شمال أوروبا، قال زيلينسكي ما نصه: «إننا نعي جميعاً أن العام المقبل يمكن أن يشهد نهاية الحرب، وعلينا أن نعمل حتى يتحقق هذا الهدف». وأضاف زيلينسكي: «يتوجب علينا أن نتوصل إلى سلام لا يستطيع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين إطاحته؛ إلى سلام وليس لمجرد هدنة. نريد سلاماً حقيقياً ودائماً».
وإذا كان الرئيس الأوكراني امتنع عن تعيين شروط السلام، فإن دول «قوة التدخل السريع» العشر بقيادة بريطانيا، تبرعت بتحديدها في بيان جاء فيه: «نريد سلاماً شاملاً، وعادلاً، ودائماً، ويتطلب الانسحاب الكامل وغير المشروط لكل القوات والوسائل العسكرية الروسية من كامل الأراضي الأوكرانية، وإلى ما وراء الحدود (الأوكرانية) المعترف بها دولياً».
استغاثة زيلينسكي
لا يعكس مضمون بيان أطراف «قوة التدخل السريع» بالضرورة حقيقة الموقف الأوكراني؛ ولا يأخذ في الحسبان الشروط الروسية المعروفة، ولا الموقف الميداني، ولا حتى التغير المرتقب للسياسة الأميركية مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض. وزيلينسكي نفسه لم يعد يكتم تخوفاته منها. فقد أعلن الخميس من بروكسل أن بلاده «بحاجة ماسة إلى الوحدة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أوروبا من أجل تحقيق السلام». وأضاف: «أعتقد أن الولايات المتحدة وأوروبا فقط يمكنهما معاً إيقاف بوتين وإنقاذ أوكرانيا».
وبكلام آخر، فإن زيلينسكي يعترف علناً بأن «انسحاب واشنطن» أو «تخليها عن دعم أوكرانيا» ستكون لهما انعكاسات كارثية على بلاده. ولذا، فإنه سعى، في بروكسل، إلى دفع الأوروبيين من أجل الضغط على ترمب لمواصلة دعم أوكرانيا، فيما الأخير يصر على ضرورة الإسراع في العودة إلى طاولة المفاوضات.
وقال ترمب، الاثنين، إن على زيلينسكي أن «يستعد للتوصل إلى اتفاق سلام مع الرئيس بوتين»، من غير أن يوضح شروطه وما إذا كان يتضمن تنازل كييف عن بعض أراضيها. وهذا الواقع يعزز المخاوف الأوروبية، حيث ترى غالبية أعضاء التكتل الأوروبي أن الرضوخ لشروط بوتين سيشجعه، في المستقبل، على افتعال حروب أخرى. لذا، قال أنطونيو كوستا، الرئيس الجديد لـ«المجلس الأوروبي»، إن التكتل «سيعمل من أجل سلام عادل ودائم»، مضيفاً: «هذه الحرب لا تتعلق بأوكرانيا وحدها، ولا تتعلق بأوروبا وحدها، بل تتعلق (كذلك) بالقانون الدولي الذي يجب أن يسود، ويجب دحر العدوان».
من جانبها، قالت أورسولا فون دير لاين، رئيسة «المفوضية الأوروبية»: «أصدقاؤنا وأعداؤنا يتابعون من كثب كيفية مواصلة دعمنا أوكرانيا. لذا؛ يجب أن يكون دعمنا ثابتاً». وهذا العزم ورد بوضح في بيان القمة الذي أشار إلى «الالتزام الثابت» بالدعم ومواصلته «مهما طال الزمن».
السيناريو الذي ترفضه أوروبا
الصعوبة التي تواجهها أوروبا، وفق مصدر دبلوماسي في باريس، أنها تريد رسم «خطوط حُمر» لا يجوز تخطيها، فيما هي عاجزة عن فرض احترامها. وأحد هذه «الخطوط» أنها «ترفض أن يُتخذ قرار بشأن أوكرانيا من غير رضى الأوكرانيين، ومن غير التشاور مع الأوروبيين»، أو أن يُقادوا إلى مفاوضات يرون أنها يمكن أن تجري وفق شروط لا تلائم كييف.
ورغم سعي الأوروبيين إلى رسم سيناريو «مستقل» عن خطط واشنطن وتأكيد ثباتهم في دعم أوكرانيا، فإنهم يعون أنهم «لن يكونوا قادرين على لَيّ ذراع الإدارة الأميركية الجديدة» في حال صممت على تغيير نهج الرئيس الحالي جو بايدن، الذي يجهد في إيصال جميع المساعدات الممكنة؛ العسكرية والمالية، إلى كييف قبل خروجه من البيت الأبيض في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل.
وفي هذا السياق، أعلن المستشار الألماني، أولاف شولتس، في بروكسل، أن أولوية الأوروبيين هي «العمل من أجل ألا تلزَم (أوكرانيا) بقبول سلام يُفرض عليها» ويتضمن تنازلات لموسكو. كما قال شولتس، الخميس: «علينا ضمان دعم أوكرانيا بشكل دائم. يجب أن يكون واضحاً أننا مستعدون لتقديم الدعم، ما دامت هناك حاجة إليه».
لذا، يعتقد الأوروبيون أن الطريق السليمة تمر عبر الاستمرار في تزويد كييف بالسلاح والمال من أجل إيصالها إلى المفاوضات، عند انطلاقها، في «وضع مريح» إن لم يكن من «موقع قوة» لتستطيع المحافظة على أراضيها. وجاء في البيان المتفق سلفاً على صياغته أنه «يجب ألا تنتصر روسيا في حربها» على أوكرانيا. كما أنه مرتقب أيضاً أن ينص على تعهدات أوروبية جديدة بزيادة المساعدات العسكرية، بما في ذلك تسليم أنظمة دفاع جوي وذخيرة وصواريخ، إضافة إلى مزيد من التدريب والمعدات المتقدمة، إلى الجيش الأوكراني. كذلك، فإن الأوروبيين يركزون على دعمهم قطاع الطاقة الأوكراني، الذي أصبح الهدف الأول للهجمات الروسية لحرمان الأوكرانيين من التيار الكهربائي.
غموض الدور الأميركي المستقبلي
حقيقة الأمر أن رسائل القمة الأوروبية موجهة إلى الرئيس ترمب، بقدر توجُّهها إلى بوتين. ورغم أن قادة التكتل، وفق أنطونيو كوستا، يسعون إلى «التوصل للسلام الشامل والعادل والدائم»، فإنهم لا يستبعدون أن ترسو الأمور على وقف للأعمال الحربية أو على هدنة ستحتاج لمن يحميها.
ودليلهم على ذلك أن زيلينسكي، شخصياً، تخلى عن مبدأ استعادة الأراضي الأوكرانية بالقوة، وقِبل بأن يكون ذلك، لاحقاً، بالوسائل الدبلوماسية؛ أي عبر المفاوضات. والحال أنه ستبرز، إذا توقف القتال، الحاجة لمراقبة خط الهدنة الممتد لألف كيلومتر وتوفير ضمانات للجانب الأوكراني من أجل الهدنة ولما بعدها.
وقد أصبح واضحاً اليوم أن كييف لن تنضم إلى «الحلف الأطلسي» اليوم ولا حتى غداً. من هنا، فإن زيلينسكي أشار الأربعاء، في بروكسل، إلى أن المحادثات مع الأمين العام لـ«حلف الأطلسي» و10 من أعضائه، يمكن أن تشكل «مناسبة جيدة جداً للحديث عن الضمانات الأمنية لأوكرانيا، حاضراً ومستقبلاً». والأهم قوله إنه إذا حصلت كييف على ضمانات أمنية قوية من «حلف شمال الأطلسي» وأسلحة كافية، فيمكنها الموافقة على وقف إطلاق النار على خطوط المواجهة الحالية، والتطلع إلى استعادة بقية أراضيها بالوسائل الدبلوماسية.
وحتى اليوم، ليست هناك رؤية أوروبية واضحة لما تريده كييف، ولا لكيفية الاستجابة لطلب الضمانات. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول من طرح هذا الاحتمال في فبراير (شباط) الماضي، وتباحث بشأنه مؤخراً مع رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك بمناسبة زيارته وارسو.
وفي المحصلة، سيحتاج الأوروبيون إلى مزيد من التباحث لمعرفة ما قد يقدِمون عليه، خصوصاً ما سيكون عليه موقف واشنطن من الضمانات وطبيعتها.
المصدر : وكالات