مادة مبتكرة تقاوم اشتعال الملابس القطنية – مشاهير

إسلام جمال14 يناير 20252 مشاهدة
مادة مبتكرة تقاوم اشتعال الملابس القطنية – مشاهير


«فريكة» هبة نجم… طَعْمٌ آخر للمسرح اللبناني

ليس عرضُ «فريكة» على مسرح «زقاق» في منطقة الكارنتينا البيروتية مما يُحدِث التلقّي المألوف في المسارح. ذلك، بأهميته، قلّما يُتوَّج على أنه تجربة، باستثناء ما تقدّمه نصوصٌ مُتقَنة بسحر الأداء والإخراج. كاتبة المسرحية، ومخرجتها وبطلتها، هبة نجم، تُكرّس أسلوبها المُرتكِز على تفعيل تلك التجربة ومدّها بعناصر حيّة. مسرحُها تذوّقي يُشغِل الحواس بالتقاط رائحة الطعام المنبعثة من «المطبخ»، وترقُّب لحظة الالتهام بعد إعلانٍ بأنها ستشكّل نهاية العرض. بسردها حكاية عمّتها الراحلة قبل 40 يوماً، تمرّ الفنانة اللبنانية على علاقة الحياة بالموت، والحضور الساطع لمَن تركت مغادرتهم في الأحياء حفرة أبدية.

بوستر مسرحية «فريكة» على مسرح «زقاق» في منطقة الكارنتينا البيروتية

يتحرّر هذا الحيّز البيروتي من شكله المُتوقَّع، ليقدّم مسرحاً خارج الصورة المُتداوَلة للخشبة والمقاعد. «زقاق» تجربة أيضاً، لتوليد تجارب. مسرحٌ لا يكترث للمظهر، وربما يفضّل «فوضويته»، فيمنح قاصدَه شعور التفلُّت من الشكل. تصطفّ الكراسي بوضعية قابلة للتعديل، مُتحرّرةً من ثباتها والعلاقة الواحدة مع المساحة، لتبدأ هبة نجم ومعها شريك الأداء وعازف الأكورديون سامح بالمنى، العرض.

هبة نجم وشريك الأداء وعازف الأكورديون سامح بالمنى (الشرق الأوسط)

من موت العمّة، وبما يُشبه التأبين الفنّي لرحيل لم يبرُد بعد، يحوم الموضوع حول وَقْع الغياب في البشر، من دون اقتصاره على دفن أحبّة وامتهان الوداع الإنساني. هو هنا غياب لِما ألفه الفرد واليوم يُفتَقد، ولِما راح يتوه عن الأصل ليتّخذ تعريفاً آخر. تُقدِّم وجبة «الفريكة» الرائجة في بلاد الشام، والمكوَّنة من حبوب القمح وخضراوات منها البصل والجزر، مُنكَّهةً بخليط بهارات شهيّ، برهاناً حسّياً على تداخُل المفاهيم في زمن غلبة الرائج. وبإخضاعها للضوء المسرحي، تشاء الفنانة الاعتراض على منطق الوجبات السريعة المفضَّلة لدى إنسان اليوم، والشرخ المتمادي بين الطبخة ومُلتَهمها. تردُّ المفهوم إلى أصله، فلا تغدو «الفريكة» شائعة جداً أو ضئيلة الحضور، وإنما الأجدى محافظتها على «وسطيّتها» بين الوهج والخفوت. وهو موقعها في الأصل.

هبة نجم تُكرّس أسلوبها المُرتكِز على تفعيل التجربة ومدّها بعناصر حيّة (الشرق الأوسط)

باستذكار عمّتها، تُجنّبها هبة نجم الإحالة على الانطفاء الحقيقي المُمثَّل بالنسيان. تولِّف الحكاية بالميثولوجيا؛ وبتداخُل مشهدية جنائزية على أنغام الأكورديون، تُستدعى متناقضات تحكُم دورة حياة البشر. فالخصوبة المُمثَّلة بالقمح والفناء المُمثل بالجفاف، يرسمان مسار الإنسانية منذ فجر التاريخ. وباستعادة صوت العمّة الراحلة، وحكاية زراعة «الفريكة» وحصادها، تُبيّن ترابُط الكائن الحيّ بالطبيعة؛ من أكثر الأشكال بداهةً؛ وهو الغَرْس، إلى ذروتها؛ وهي دفن الجسد بالتراب.

وإذ يُفسَح المجال لرقصة الضوء مع المشهد الجنائزي، وتصاعُد النغم الموسيقي؛ تتأكد هبة نجم من أنّ طبخة «الفريكة» تُعدُّ على نار هادئة. وبكشفها الغطاء عن الطنجرة، يملأ البخار ما حولها وهي تُقلِّب بالملعقة الخشب ما رسَبَ في القعر نحو الأعلى، لمَنْح المكوّنات فرصة استواء عادلة.

طبخة «الفريكة» تُعدُّ على نار هادئة وسط تصاعُد النغم (الشرق الأوسط)

علاقة الأنثى بالعمّة شائكة بحجم عمقها إنْ حكمها ودٌّ خاص. في المسرحية تغدو مفتاحاً إلى الآخر، مما يُجرّدها من الشخصانية نحو احتمال إسقاطها على علاقات يُشكّلها الوفاء والعطف. يغرف العمل من رقصة الموت والحياة أسئلة تُرمى على المتلقّي لتحرّضه على السعي خلف إجابة. وكما يُحتَفى بالحيّ، ضمن سيرورة الوجود، يُستذكر الميت ضمن السيرورة عينها وفق منطق أنّ الحياة نداء الموت، والموت شبح الحياة. في نصّ هبة نجم، تُعاد الصياغة على هذا النحو: «نولد من حفرة وننتهي بحفرة»، مع ما يكمُن بين البداية والنهاية من حزن وصراع وتقبُّل وذكريات.

يُمهِّد القربان لولادة الوليمة، فتُوزّع الفنانة على الجمهور، وهو هنا المُشارك في الجنازة، خبزاً بإمكان مذاقه التفوّق على انتشار ما سمّته «رائحة الخطايا في أرجاء المسرح»، فيغتسل الموتى من الإثم وتستكين أرواحهم المُعذّبة. وتتويجاً للخلاص الإنساني المرجوّ، تدعو «ضيوفها» لإعداد تلك الوليمة، بأصابع أذنبت، وقلوب لعلّها مُثقلة. عملية إعداد السفرة بمثابة تطهُّر جماعي من الآثام المُرتَكبة؛ فإذا بالجميع يجلس حول المائدة لتناوُل خطاياه ومَضْع الندم!

عملية إعداد السفرة بمثابة تطهُّر جماعي من الآثام (الشرق الأوسط)

بطلب هبة نجم الانقسام إلى 4 مجموعات؛ تُنجز الأولى مَهمّة تقطيع الخضراوات لإضافتها إلى طبخة «الفريكة»، والثانية خَفْق اللبن مع الخيار والثوم لتنكيه الوجبة، والثالثة تقطيع الفاكهة وشكّها بعيدان خشبية تُزيّن السفرة، والرابعة الاهتمام بترتيب الزهور وتوزيع الشموع؛ تُحوّل المسرح ورشة تنبض بالحياة رداً على الحِداد المُسيطر، وانتصاراً للأمل على الزعل.

فجأة، تجد صاحبة السطور نفسها تتناول العشاء، «فريكة» ولبن مُثوَّم، على سفرة يملأها غرباء، يلتهمون آثامهم بشهية ثم يغسلون الصحون! مثلهم تماماً تُحطّم بعض المألوف فيها، ومما تأطَّر وتجمَّد وأُصيب بالصمت المميت.

يجلس الجميع حول المائدة لتناوُل خطاياه ومَضْع الندم (الشرق الأوسط)

تقول هبة نجم لـ«الشرق الأوسط» إنّ الفكرة وُلدت عام 2015 بوحيّ من مادة الإنثروبولوجيا والمسرح في الجامعة: «يمكن للطعام أن يحمل طابعاً مسرحياً. المائدة تُخاطب الحواس وتجمع البشر بتشكيلها ذريعة للقائهم وإمكان حدوث البوح. هذه المسرحية ثالث عروضي التذوّقية احتفاء بمأكولات غير مألوفة وربما منسيّة؛ بعد (عدس بشومر) و(فطاير ببندورة). أردتُ ردَّ (الفريكة) إلى أصلها/ منطقتنا. أحبّ لقاء الناس والحديث معهم. واستحضار شخصيات ليس لها عادةً أيّ حيّز مسرحيّ، مثل مُزارع (الفريكة) مثلاً أو عمّتي. سرد قصصهم يُريحني».

لم ينتهِ العرض بتصفيق وتحية. لمَّ الجميع على المائدة وأسعَدَ. حركش بأسئلة كبيرة وصنع تجربة. تصفيق من نوع آخر سُمِع عالياً.


المصدر : وكالات

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل