يشهد الجيش الإسرائيلي خضخضة كبرى منذ أن أعلن رئيس أركانه هرتسي هاليفي قراره الاستقالة في 6 مارس (آذار)، وبدء عملية استقالات واسعة من مواقع قيادية كثيرة وصفت بأنها «عملية تطهير» دفع إليها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ستشمل جميع الجنرالات والعمداء والعقداء الذين يعدُون عقبة في طريقه لتحقيق أهدافه في تشكيل قيادة ولاء وليس قيادة مهنية.
فعلى الرغم من محاولات منع هذه الاستقالة في الأجهزة الأمنية، اضطر هاليفي إلى الاستقالة، مؤكداً لرفاقه أنه يريد أن يمنع إقالته ويخرج بكرامة من المأزق الذي وضعه فيه نتنياهو. فمنذ أن أقيل وزير الدفاع يوآف غالانت، قبل شهرين، يتعرض هاليفي لضغوط من الوزير الجديد الموالي لرئيس الوزراء يسرائيل كاتس، الذي حدَّد له نهاية الشهر الحالي ليترك منصبه. وقد تبعه على الفور قائد المنطقة الجنوبية اللواء يارون فينكلمان، ليقدم استقالته. وبحسب مقربين من المؤسسة الأمنية الضخمة في الدولة العبرية، سوف يتبعهما نحو 10 ضباط كبار في أجهزة الأمن برتب لواء أو عميد أو عقيد، وفي مقدمتهم رئيس «الشاباك» رونين بار، ومعه رئيس قسم العمليات في الجيش اللواء عوديد بسيوك وقائد الكليات العسكرية اللواء نكرود الوني، الذي شغل منصب قائد وحدة غزة، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وقائد اللواء الجنوبي الأسبق ايعيزر طوليدانو، الذي ترك منصبه قبل ثلاثة شهور من 7 أكتوبر، وربما قائد سلاح الجو اللواء تومر بار وقائد سلاح البحرية دافيد ساعر سلامة.
والأمر الذي كان يخشاه قادة الجيش سيحصل، وهو أن نتنياهو سيختار على هواه بدلاء عن المستقيلين. وسيفضل أناساً موالين له، ممن يؤيدون الاستمرار في الحرب واختلفوا مع هاليفي في إدارة الحرب. وهذه سابقة لم يكن لها مثيل في التاريخ الإسرائيلي، منذ حرب أكتوبر 1973.
وينظر إلى هذه الاستقالات، على أنها إقرار بالهزيمة من قادة الأجهزة الأمنية، أمام حكومة اليمين المتطرف. فهؤلاء الجنرالات تعرضوا لهجوم شرس من نتنياهو وأبواق اليمين، منذ 2011؛ إذ اختلفوا معه ورفضوا طلبه إعلان الحرب على إيران. وبلغ الهجوم أوجه في السنوات الأخيرة، وزاد عن حده في أشهر الحرب على غزة، وصمدوا لفترة طويلة أمامه وتحدوه أيضاً لفترة طويلة. وقبيل الحرب ردوا الصاع صاعين على مؤامراته، وكادوا ينجحون سوية مع بقية مركبات الدولة العميقة في إسقاط حكومة نتنياهو خلال الهبة الجماهيرية قبل 6 أكتوبر 2023، لولا مجيء هجوم «حماس» في 7 أكتوبر، الذي يعدّ أكبر إخفاق في تاريخ إسرائيل، وتحول فضيحةً كبرى للجيش ولمخابراته ولكل الأجهزة الأمنية.
في إسرائيل مقتنعون تماماً بأن الحكومة أيضاً مسؤولة أساسية عن الإخفاق، بل إن سياستها تعدّ الدافع الأكبر له، ويؤكدون أن أجهزة الأمن كانت قد حذَّرت الحكومة من أن سياستها تجاه الفلسطينيين ستؤدي إلى انفجار عنيف في المنطقة، إلا أن هذا لا يعفي هذه الأجهزة. بل يزيد من مسؤوليتها عن الإخفاق. فإذا كانت تعرف أن الانفجار قادم، فلماذا غطت في نوم عميق؟ أهي الغطرسة فقط والاستخفاف الأحمق بالفلسطينيين، أم هو مجرد إخفاق يصيب كل الجيوش المتخمة بالميزانيات والغارقة في البيروقراطية التي أدت إلى سوء الأداء؟ ففي اليمين يعدّ هاليفي أسوأ رئيس أركان في تاريخ الجيش، وهو في خطابه واستقالته عزف على الوتر الحساس الذي يحبه اليمين وأصاب الهدف الذي يرمون إليه.
لقد دل خطاب الاستقالة على أن هاليفي وقع في كل مطب نصبه له اليمين يكمن في هذه الأسئلة وأكثر. وراح يرد عليها ويدافع عن نفسه إزاءها بشكل صريح. اعترف بالمسؤولية اعترافاً كاملاً مرات عدة. وقال إنه بقي في منصبه لأنه أراد أولاً أن يقلب النتيجة على الأرض. وأن يصحح الانطباع عن الجيش في الداخل (أمام الشعب والجنود وأهاليهم) وفي الخارج (أمام جيوش العالم التي كانت تعدّه أحد أفضل الجيوش في العالم)، وأنه بمقدار الإخفاق الكبير تمكن من إحداث نهضة في الجيش وأدائه ومعنوياته. وراح يعدّد إنجازاته، التي سبق أن نسبها نتنياهو لنفسه ولحكومته. والورطة كانت عندما رد هاليفي على الاتهام الذي يروّجه اليمين وفقاً لنظرية المؤامرة، التي تقول إن الجيش كان يعرف بهجوم «حماس» مسبقاً وتركه يحصل حتى يتسبب في سقوط الحكومة. وقال هاليفي: «لم تكن هناك أي مؤامرة. أستطيع أن أقول بكل ثقة الآن – لم يخف أحد معلومات ولم يعرف أحد ما كان على وشك الحدوث ولم يساعد العدو على ممارسة قسوته. هذه التصريحات، بالإضافة إلى كونها غير صحيحة، أضرت بالذين يخدمون المخلصين، الذين فعلوا ويفعلون من أجل أمن البلاد ويتفهمون بعمق مسؤوليتهم في ضوء النتائج». فالجمهور الإسرائيلي لم يشتر هذه الإشاعة في حينه، وتعاطى معها بصفتها أمراً هامشياً، لكن هاليفي وضعها في مركز النقاش من جديد.
ومع أن هاليفي شدد على ضرورة إجراء «تحقيق حيادي» في الإخفاقات، حتى تتضح الصورة الحقيقية، وهذا مهم، إلا أنه مثل كل المسؤولين الإسرائيليين تجاهل تماماً القضايا الجوهرية التي تسببت في الحرب وفي استمرار الحرب وفي الفشل في الحرب. تجاهل الحقيقة بأن تهرب الحكومة الإسرائيلية من مسؤوليتها في تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بطريقة سلمية واختيارها المثابر لمعالجة الصراع بقوة الآليات الحربية، وتجاهل الحديث عن روح الانتقام والثأر التي اتسمت بها الحرب وخلطت عن وعي وإصرار بين «حماس» وبين الشعب الفلسطيني؛ فقتلت أكثر من 50 ألفاً ثلثاهم مدنيون من الأطفال والنساء والمسنين، وأحدثت دماراً لم يسبق له مثيل إلا في الحرب العالمية الثانية، واستخدمت أدوات قتل من مدارس الإبادة الجماعية، وبعد كل هذا راح يتحدث عن الإنجازات العسكرية ويتجاهل تماماً الآثار التاريخية السلبية على إسرائيل، ووضعها في خانة مرتكبي جرائم الحرب ضد الإنسانية.
لذلك؛ فإنه في معايير التاريخ، لا أسف على هاليفي في استقالته. لكن هذه الاستقالة وما ستحدثه من خضات في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، تثير قلقاً مشروعاً إزاء المستقبل. فالآن ينتشي نتنياهو ويشعر برضا مخيف عن الذات، فيكمل مسيرته العدوانية بشكل حر. الآن سيحاول اختيار جنرالات ممن يؤيدون استئناف الحرب ويقبلون العمل وفق أهواء رئيس حكومة يحاكم بتهم بالفساد ويرضخ لإملاءات قادة سياسيين أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ويسرائيل كاتس. وأعداء إسرائيل، يتمنون لها أن يصبح في قيادتها ألف بن غفير والفي سموتريتش وكاتس.
المصدر : وكالات