رياض نعسان أغا
ذات يوم سألتُ رئيساً عربياً اعتاد أن يهاجم الامبريالية والرأسمالية وبات قائداً لمقاومة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط: هل أنت حقاً ضد الولايات المتحدة؟ فتبسم وقال: الولايات المتحدة دولة عظمى، ولا أحد يريد أن تكون عدواً له، لكنها غير عادلة في مواقفها من قضايانا.
وأذكر في طفولتي خلال خمسينيات القرن الماضي أنني كنتُ أرى أكياساً من الطحين مكتوباً عليها «هدية من الشعب الأميركي»، وكانت تَترك في نفوس الناس شعوراً بالامتنان، رغم أنني كنت أتساءل في نفسي: ما حاجتنا لقبول القمح هديةً، ولدينا سهول خصبة وشعب عريق في الزراعة؟ لكن أميركا سرعان ما توقفت عن إرسال أكياس الطحين وبدأت ترسل القنابل والصواريخ ودخلت في ساحات حروب غير عادلة.
وقد بدا أن العرب انقسموا إلى فريقين منذ منتصف القرن العشرين، أحدهما بقي حريصاً على صداقة الولايات المتحدة، وثانيهما لجأ إلى الاتحاد السوفييتي. وقد اضطربت المواقف منذ حرب الخليج الأولى التي سماها العراقيون «قادسية صدام» ضد إيران التي وقف العرب ضدها، عدا سوريا التي وقفت يومها إلى جانب إيران، لكنها شاركت الولايات المتحدة رمزياً في حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت (عاصفة الصحراء). وتبدلت خريطة الاصطفاف السياسي العربي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ووجد العرب الموالون له أنفسهم من دون جدار استنادي يلجؤون إليه. وفي مطلع التسعينيات تقربت الولايات المتحدة من خصومها السابقين، ونادى الرئيس بوش الأب بنظام عالمي جديد، ودعا إلى مؤتمر سلام في مدريد، ولبى العرب الدعوة، وبدأت مفاوضات الحلول للوصول إلى اتفاقيات السلام. وسرعان ما واجهت الأمة عام 2003 حرب الخليج الثالثة، حيث بسطت الولايات المتحدة نفوذها على العراق. وكان من الطرائف أن الرسالة الأميركية تضمنت الدفاعَ عن حقوق الإنسان والدعوة إلى نشر الديمقراطية، وقد رأى العالم ما حدث في العراق من فوضى وقتل وتخريب، قبل تسليمه لإيران. وعقب خمود «الانتفاضات العربية» التي انطلقت في عهد الرئيس الأميركي أوباما، بدأ التوجس من نشوب «حرب الخليج الرابعة» التي هددت بها الولايات المتحدة إيرانَ في عهد ترامب، لكن إيران كانت مطمئنة إلى كونها تهديدات لفظية فحسب، إذ ثمة من يدعم إيران داخل كواليس السياسة الأميركية.
وقد اضطربت سياسة الولايات المتحدة في موقفها من العالم العربي، وكانت تصريحات أوباما متناقضة مع حقيقة أفعاله، واتضح ذلك في الاتفاق النووي مع إيران، ثم في تخليه عن وعوده للعالمين العربي والإسلامي بعد فيض خطاباته الفضفاضة. وحين جاء ترامب تصاعدت التصريحات المتناقضة، وقد وعد شعبه بإعادة الاعتبار لمكانة أميركا، رغم تصاعد حضور الصين وروسيا في وقت بدأ يخبو فيه بريق أوروبا. وفي عهد الرئيس بايدن ظهرت حالة من الاضطراب في فهم سياسة الولايات المتحدة، وأفادت الصين الحكيمة وروسيا الطموحة من حالة الانكماش الأميركي، وكان مريباً أن تفقد الولايات المتحدة أصدقاءها القدامى وأن تشعرهم بأنها غير حريصة على مصالحهم، وأن تزرع بذور الشك في مستقبل علاقاتهم معها، وفي ذات الوقت تريد أن تمارس دور المعلم والقائد العالمي للنظام الدولي، وكانت روسيا المستفيد الأهم من حالة التردد والانسحاب الأميركي من الساحات الساخنة، إلى الاهتمام المفرط بالتنافس مع الصين والتحذير من ضخامة صعودها، مع أن الصين لم تتحرك خارج الاقتصاد. ومع توالي التصريحات ضد إيران بدت الولايات المتحدة حريصةً على انتشالها من مآزقها وتمكينها عبر استعادة الاتفاق النووي، ومنحها تفويضاً للتدخل في دول عربية عدة، فيما بدأت ثقة الأوربيين تتزعزع في قدرة الولايات المتحدة ورغبتها في الدفاع عن أوروبا ذاتها أمام طموحات المشروع الروسي.
وكان مطلوباً من العرب أن يسدوا الفراغ الذي يخلفه توقف صادرات روسيا من النفط والغاز الطبيعي، وأن يدخلوا في صراع مع روسيا وهي شريك اقتصادي هام للخليج العربي، في ذات الوقت الذي تطلق فيه الولايات المتحدة تصريحات توحي بالتخلي عن دورها مع حلفائها! وقد أحسن العرب في الحفاظ على الحياد، وهو ليس تمرداً على الولايات المتحدة، وليس انحيازاً لروسيا، وإنما هو حفاظ على السيادة والمصالح الوطنية، لذا فقد متَّنوا علاقتهم مع الصين ضمن شراكة وصداقة عريقة مسبقة.. داعين إلى السلام وإلى الحرص على البشرية وعلى تجنيبها مزيداً من الويلات
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم