منذ نحو قرن من الزمن، تخلت الولايات المتحدة عن ديمقراطيتها الدستورية التي تشدد على فصل السلطتين وتمجيد الحرية، وتحولت إلى إدارة شبه ملكية تمارس سلطة لا تخضع للرقابة أكثر من الملك الذي كان سبباً لقيام الثورة الأميركية وهو الملك جورج الثالث.
ويستخدم رؤساء الولايات المتحدة سلطاتهم بصورة أحادية حيث يشنون الحروب، ويعتقلون الأشخاص إلى أجل غير محدد دون محاكمة، ويبرمون الاتفاقيات أو ينفصلون عنها، ويشرعون من خلال الأوامر التنفيذية أو وضع القرارات، ويعملون على مراقبة المواطنين «غير المذنبين» دون أي أوامر قضائية، ويديرون الحكومة السرية، ويحولون الأموال لأغراض لم يصرح بها الكونغرس.
اغتيالات
وذروة السلطة الرئاسية هي السلطة التي لا يمكن مراجعتها، والتي تقوم بدور المدعي العام، والقاضي، وهيئة المحلفين، ومنفذ الحكم، والتي تستطيع ضرب أي هدف بناء على تكهنات سرية غير مؤكدة، من منطلق أن هذا الهدف سيشكل تهديداً وشيكاً للأمن القومي الأميركي. ومن غير الواضح عدد حالات الاغتيالات التي ربما تم تبريرها بهذه السلطة، لأن أسرار الدولة تحظر الكشف عنها. ونعتمد في معرفتنا لذلك على المعلومات المسربة إلى الصحافيين، وتلك التي تصدر عن المسؤولين الحكوميين. وعلى سبيل المثال برر المدعي العام السابق إيريك هولدر، سلطة الاغتيال الرئاسي في خطاب ألقاه عام 2012 في جامعة نورويسترن، عن طريق استخدام الإجراءات الدستورية التي وضعت من أجل منع إصدار قرارات مزايا الضمان الاجتماعي الخاطئة، وليس الإعدام غير القانوني.
فيدل كاسترو
وتهدف هذه الأوامر الرئاسية إلى إبقاء العملية سرية عن الكونغرس، وهو السلطة التشريعية في الدولة، وكذلك عن الشعب الأميركي نفسه. وكشفت «لجنة تشيرش» المنبثقة عن الكونغرس عام 1975 أن التحقيقات المتعلقة بسوء استخدام السلطة من قبل منظمات الاستخبارات، أن المخابرات المركزية الأميركية متورطة في مؤامرات لقتل الرئيس الكوبي السابق فيدل كاسترو وأربعة آخرين من القادة الأجانب. وعلى الرغم من أنها لم تؤكد على أن الرئيس هو الذي أقرها، فإن النتائج التي توصلت إليها اللجنة تشكل تحدياً لاعتقادنا بأن عمليات الاغتيال هي أحداث معزولة. ومنذ عام 1981، أصبحت عمليات الاغتيال محظورة صراحة بالأمر التنفيذي الذي يحمل الرقم 12333، وينص على أنه «لا يجوز لأي شخص موظف لدى حكومة الولايات المتحدة أو يعمل نيابة عنها، الانخراط في أو التآمر للانخراط في عملية اغتيال». وربما يتمتع الرئيس بسلطة أحادية، ولكن الكونغرس يمتلك درجة مماثلة من السلطة، لدرجة أنه أسهم في القضاء على الديمقراطية في السلطة التشريعية. ومع صعود رئيس مجلس النواب السابق الجمهوري نيوت غينغريش عام 1993، اكتسبت قيادة الكونغرس سلطة حاسمة.
ألفا صفحة
ويحدد رئيس مجلس النواب عضوية اللجان وجلساتها، وتصويت الأعضاء والتفاصيل التشريعية، ويتمتع زعيم الأغلبية في الكونغرس بسلطة مماثلة له. وغالباً ما يحصل أعضاء الكونغرس على مشروعات القوانين المكونة من ألفي صفحة قبل بضعة أيام من التصويت، بحيث لا يكون لديهم الوقت الكافي لمراجعتها. وعندما أعلنت رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي عن مشروع قانون «الرعاية بأسعار مقبولة» في عام 2010 قالت «علينا أن نصدر هذا القانون كي تعرفوا على ماذا ينص»، وفي كل الأحوال، فإن ما يفتقر إليه أعضاء الكونغرس من خبرة لتسيير الأمور يمكنهم التعويض عنها من خلال براعتهم في جمع التبرعات، خصوصاً قادتهم. وعادة ما يقوم قادة الكونغرس بتهميش الأعضاء العاديين، بحيث يصبح من الصعب عليهم تطوير براعتهم المهنية والبراعة السياسية التي قد تجعلهم قادرين على التشكيك في برامج القادة في الكونغرس. وبناء عليه يظلون مثل «أطفال في الغابة» في نظر السلطة التنفيذية.
عودة «طالبان»
بالنظر إلى تنازل الكونغرس عن عرشه، أنفقت السلطة التنفيذية نحو 300 مليون دولار يومياً لنحو 20 عاماً (أي ما يعادل تريليوني دولار) على الحرب في أفغانستان، التي نجم عنها عودة حركة «طالبان» إلى كابول وهي أكثر قوة، ولكن لم تعمد أي جلسة كونغرس إلى مساءلة السلطة التنفيذية على افتراضاتها المفرطة في التفاؤل بشأن تحقيق النصر في حرب أفغانستان. وذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أن السلطة التنفيذية كانت تعرف أنها كانت تدور في حلقة مفرغة خلال كل هذه السنوات، ولكنها كانت تعرب بصورة منتظمة عن تقدمها نحو تحقيق الهدف المنشود.
ويهدف الفصل بين السلطات في الدستور إلى حماية الشعب الأميركي ضد الدكتاتورية، ومنع الاستبداد عن طريق المطالبة باتفاق الدوائر الانتخابية المتنافسة قبل اتخاذ أي إجراء. ومع كل خلافاته الحزبية ليس من المستغرب انخفاض إنتاجية الكونغرس «مع أن مشروعات القوانين الصادرة أصبحت أكثر شمولية هذه الأيام»، وفي بعض الأحيان تستطيع السلطة التنفيذية الالتفاف على الجمود؛ ولذلك ليس من المستغرب أنه خلال السنوات القليلة الأخيرة أصدر الرئيس من التشريعات أكثر مما صدر عن الكونغرس من خلال الأوامر التنفيذية، والسلطة التي منحه إياها الكونغرس.
فشل أميركي
باختصار يمكن أن تكون الولايات المتحدة قصيرة النظر من خلال انشغالها بالديمقراطية في الدول الأخرى، لكنها ساذجة في ما يتعلق بزوال الديمقراطية في الداخل. وخلال افتتاح قمة 10ديسمبر 2022 للديمقراطية دعا الرئيس الأميركي جو بايدن إلى حماية الديمقراطية التي قال عنها إنها «التحدي المميز في عصرنا»، ولكن التهديد الأكبر للديمقراطية ربما ليس الأنظمة الدكتاتورية، وإنما فشل أميركا في طرح المثال الذي يمكن أن يصبح مصدر إلهام للآخرين.
أرمسترونغ ويليامز إعلامي أميركي
• يمكن أن تكون الولايات المتحدة قصيرة النظر من خلال انشغالها بالديمقراطية في الدول الأخرى، لكنها ساذجة في ما يتعلق بزوال الديمقراطية في الداخل.
ذروة السلطة الرئاسية هي السلطة التي لا يمكن مراجعتها، والتي تقوم بدور المدعي العام، والقاضي، وهيئة المحلفين، ومنفذ الحكم، والتي تستطيع ضرب أي هدف بناء على تكهنات سرية غير مؤكدة من منطلق أن هذا الهدف سيشكل تهديداً وشيكاً للأمن القومي الأميركي.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news