منذ اللحظات الأولى للحرب الروسية على أوكرانيا، كان تدخّل الولايات المتحدة في هذه الحرب بشكل أو بآخر واضحاً للغاية، سواء بالتصريحات المعلنة لدعم كييف، أو بتقديم الدعم المادي والعسكري لها، لكن هل هذا يخدم أكثر، مصلحة أوكرانيا أم الولايات المتحدة ذاتها؟
هذا التساؤل حاول الباحث الدنماركي، يورغن أورستروم مولر، تقديم إجابة له في تقرير نشرته مجلة «ناشيونال إنتريست» الأميركية.
وقال مولر الزميل الزائر في «معهد إسياس – يوسف إسحق» للأبحاث الأمنية والسياسية بسنغافورة، إنه إذا حكمنا من خلال تصريحاته الأخيرة، يبدو أن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، يبحث عن مفاوضات لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
ومع ذلك، وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة تلعب دوراً حاسماً في الصراع، فإن واشنطن لديها نفوذ كافٍ لتحديد متى وكيف تدخل أوكرانيا في مفاوضات السلام. لكن أهداف واشنطن من وراء هذا الصراع بعيدة كل البعد عن الوضوح.
ليس الحال هكذا
واعتقد معظم المراقبين في البداية أن الولايات المتحدة تدخلت بمساعدة عسكرية للدفاع عن أوكرانيا، وطرد روسيا، ومنع النصر الروسي. والآن يبدو أن هذا ليس هو الحال. فخلال اجتماع في كييف مع زيلينسكي في 25 أبريل 2022، صرح وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، بأنه يأمل أن تؤدي الخسارة الروسية في أوكرانيا، إلى ردع قيادتها عن تكرار أعمالها العدوانية في أماكن أخرى.
ويضيف مولر أن الاستراتيجية الأميركية هكذا تبدو أنها تهدف إلى استخدام الهجوم الروسي كفرصة لتحقيق هدف جيوسياسي أميركي يتمثل في إضعاف روسيا تماماً. وهذا هدف مختلف تماماً، ويتساءل المرء كيف يشعر الأوكرانيون حيال ذلك. إن مثل هذا الهدف ينطوي على حرب استنزاف مع خسائر كبيرة يتحملها الأوكرانيون، وليس الأميركيون.
ويرى مولر أن بيان أوستن لا يفضي إلى مفاوضات لإنهاء الصراع. وعلى العكس، يمكن للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، استخدام ذلك لتعزيز سلطته في مواجهة معارضة من القوات العسكرية والأمنية الروسية التي يحتمل أن تكون غير راضية. على سبيل المثال، قد ترغب بعض النخب الروسية في تغيير تكتيكاتها أو حتى معارضة بوتين، ونحن لا نعرف عن هذا، ولكن إذا كانت نتيجتهم الوحيدة هي الوطن الأم الضعيف كثيراً، فلماذا يجب عليهم القيام بذلك؟ وأي معارضة ستوصف بأنها غير وطنية.
وبالنسبة للولايات المتحدة، ربما كان من الحكمة القول إنه في حين يتعين على روسيا الانسحاب من أوكرانيا، فإن نهاية الحرب ستوفر لموسكو فرصة للانضمام إلى المجتمع الدولي. ربما لم ينسَ بعض الروس أنه من عام 1997 إلى عام 2014، كانت مجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى في الواقع مجموعة الثماني (لأن روسيا كانت عضواً). وينبغي تذكيرهم بأنه ليست روسيا، بل السياسة الروسية الحالية، هي التي أدت إلى هذه القطيعة.
واستند الرئيس الأميركي السابق، فرانكلين روزفلت، إلى درسين من التاريخ، وألقى بياناً في عام 1943 أعلن فيه أن أهداف حرب الحلفاء كانت إجبار ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، واليابان الإمبراطورية، على الاستسلام غير المشروط.
ويقول مولر إنه في ظل معرفة مدى شر النازية، كانت هناك أسباب جيدة لتحقيق هذا الهدف، لكنه ساعد أدولف هتلر على حشد الأمة الألمانية وراءه. فلماذا كان يجب على الألمان أن يحاولوا إنهاء الحرب وهم يعلمون أنهم سيسلمون أنفسهم لرحمة الحلفاء، أو زوال النازية؟ نحن نعلم الآن أنه بالنسبة لليابانيين، لعب الإمبراطور دوراً حاسماً، ومن غير المؤكد ماذا كان سيحدث، حتى بعد القنبلتين النوويتين، لو لم يرضخ الأميركيون للحفاظ على الإمبراطور. لذلك، في مواجهة اليابان، لم يتم تطبيق الاستسلام غير المشروط بحكمة بالغة.
وتصرف الرئيس السابق جورج بوش الأب، كرجل دولة خلال حملة تحرير الكويت في عام 1991. وشكل تحالفاً داخل إطار الأمم المتحدة بهدف تحرير الكويت من الغزو العراقي (وافق مجلس الأمن بالإجماع على القرار 678/1990). وعندما تحقق هذا الهدف، رفض جميع النصائح والأفكار للمضي قدماً، وهندسة تغيير النظام في العراق. إن فن الحكم الحقيقي، الذي لا ينبغي نسيانه في أوكرانيا، يتلخص في معرفة متى، وكيف نتوقف.
موقف غير حكيم
وبالقدر نفسه يعتبر غير حكيم، تصريح هنري كيسنجر في 24 مايو 2022 أمام اجتماع في دافوس بأنه «من الناحية المثالية، يجب أن يكون الخط الفاصل هو العودة إلى الوضع السابق». وعلى ما يبدو، فإن المعنى الضمني هو أن الحرب يجب أن تنتهي بترك روسيا تسيطر على الأراضي في دونباس، التي كانت تحتلها قبل 24 فبراير 2022.
ولم تؤدِّ سوى مفاوضات قليلة إلى موقف مقبول للطرفين إذا قدم أحد الطرفين، حتى قبل أن يجلس الجانبان المتعارضان، تنازلات كبيرة. وستعرف روسيا وبوتين أنهما قد حصلا بالفعل على الأراضي التي جرى احتلالها قبل الحرب، وبالتالي سيشرعان في طلب المزيد، ربما طلب جزء كبير من جنوب أوكرانيا على ساحل البحر الأسود، بالإضافة إلى الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم في عام 2014.
وفي مثل هذا السيناريو، سيبدأ زيلينسكي في معرفة أن الولايات المتحدة، إذا اتبعت إدارة الرئيس جو بايدن نصيحة كيسنجر، قد أهدت روسيا بالفعل جزءاً كبيراً من بلاده. فكيف يمكنه بعد ذلك تخليص نفسه من المفاوضات بنتيجة يمكن لشعبه التعايش معها، بعد هذا الدفاع الحماسي؟ ولا ينبغي تقديم التنازلات إلا إذا بدا من المرجح أنها ستنهي الصراع بنتيجة مقبولة. لذلك، فإن زيلينسكي محق تماماً في قوله مراراً إن هدفه هو استعادة وحدة أراضي أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم.
دفع الثمن
وهذا الموقف وحده هو الذي يضمن أن تبدأ المفاوضات من موقف منصف. وقد تنتهي المفاوضات بتنازلات إقليمية من أوكرانيا، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإن البت فيها سيكون على أساس ما يشعر به الأوكرانيون ويوافقون عليه. وهذا هو جوهر المفاوضات ولا ينبغي إعطاؤه لروسيا بشكل مسبق لأن روسيا يجب أن تدفع ثمن أي تنازلات تضعها أوكرانيا على الطاولة. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن جانباً واحداً فقط من الطاولة يتفاوض.
ويرى مولر أن المفاوضات الرامية إلى حل الصراعات التي تضاهي إلى حد ما، ما شهدناه في أوكرانيا لا تبدأ قبل أن يتوافر أحد الشرطين: إما أن يعترف أحد الطرفين بالهزيمة، أو كان الطرفان منهكين للغاية، ويجدان أن كلفة مواصلة الحرب تفوق أي تنازلات غير مستساغة يجب تقديمها.
ولا يبدو أن أياً من هذين الشرطين متوافر في الوقت الحالي، ما يعني أن الحرب ستستمر على الأرجح لبعض الوقت. ويجب على الولايات المتحدة وأوروبا أن تحرصا على أن تظل أوكرانيا قادرة على الوقوف في وجه العدوان الروسي. وإلا فإن النتيجة ستتشكل من خلال مفاوضات غير متوازنة، حيث تحتل روسيا مقعد القيادة.
وأخيراً يقول مولر إنه يجب على الولايات المتحدة أن تقاوم إغراء تحويل الصراع من كونه حول أوكرانيا وسيادتها إلى قضية جيوسياسية تستخدم لتحقيق الأهداف الأميركية. ويجب أن يظل الصراع في أوكرانيا مركزاً على ما هو لمصلحة أوكرانيا، وليس لمصلحة أميركا.
أميركا تلعب دوراً حاسماً في الصراع، ولدى واشنطن نفوذ كافٍ لتحديد متى وكيف تدخل أوكرانيا في مفاوضات السلام. لكن أهداف الإدارة من وراء هذا الصراع بعيدة كل البعد عن الوضوح.
روسيا يجب أن تدفع ثمن أي تنازلات تضعها أوكرانيا على الطاولة. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن جانباً واحداً فقط من الطاولة يتفاوض.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news