كيف تجلى الله في الهندوسية

إسلام جمال25 أكتوبر 2022 مشاهدة
كيف تجلى الله في الهندوسية

مر الفكر الهندي منذ بدايته حتى الآن بمراحل وعي متعددة، كانت بمثابة تدرج في العقلية الهندية التي كانت تسعى دومًا لاكتشاف حقيقة المحرك الأول للعالم (الله)، ولكن بمنظورهم المحدود آنذاك، بدأ الوعي الهندي بالاعتقاد والإيمان بما هو محسوس ومرئي؛ لذا نجد أن أقدم العبادات في الشرق الأدنى (الهند والصين) كانت عبادة
(الطواطم)، والتي تعني وجود روح عظيمة تسكن قوى الطبيعة، وتتمثل هذه القوى في رموز عديدة قد تكون أحد هذه الأشياء أو جميعها:
(حيوان- نبات- سماء- أرض- رعد- رياح- أشجار)، ولعل شجرة (بودي) أو شجرة المعرفة، تعد مثالا حيا للعبادة الطوطمية، والتي لا تزال باقية ومقدسة حتى عصرنا
الحالي، وهي شجرة تعود إلى الحكيم (بوذا) الذي عاش في القرن السادس قبل الميلادي، وهناك اعتقاد جمعي بأن شجرة التين المقدسة التي توجد على أطلال شجرة بوذا
المستنير مستنبتة من شجرة بوذا التي جلس تحتها طوال ثلاثة أيام وليالٍ، حتى وجد الأجوبة التي يبحث عنها فيما يخص الخلاص من الألم،
وهو ما سماه (الظمأ أو الاشتهاء)، ولكي يزيل الرغبة المحدثة للألم عليه أن يعرف أسبابها، واكتشف
حينها بعد رحلة طويلة من التقشف والزهد الشديد أن الزهد ليس الوسيلة الأفضل لانتزاع الألم، بل الثبات والتأمل واتباع
السبيل الوسطي في الحياة، وهو الابتعاد عن الإفراط، فالانغماس في الشهوات حياة مخزية وعديمة الجدوى؛ وكذلك تجويع الجسد وإذلاله بالتقشف حياة دنيئة، ولكن
اتباع الوسط بينهما هو عين الحقيقة، ومن هنا أسس مذهبه الخاص الذي أدركه لا عن طريق قراءة الفيداس (الكتب المقدسة) ولا عن طريق تجويع الجسد، بل من خلال التأمل العميق للكون والثبات أمام الرغبات ومن هنا توصل لحكمة العالم وهي:
من الخير يأتي الخير، ومن الشر يأتي الشر، وهو مبدأ متعارف عليه في قانون الأعمال الهندوسي ولكن قبل بوذا لم يكن هذا المبدأ يعمل به، وشرح (بوذا) مذهبه فقال: “طالما أن العمل الصالح يأتي بالصالح والشر يأتي بالشر، فلا قيمة أو معنى لتقديم القرابين للأصنام أو الصلاة لهم؛ لأن لا أحد من هذه الآلهة المعبودة يمكن أن تغير في نظام الكون الثابت أبدا”. ومن ثم وضع وصاياه العشرة التي أصبحت إنجيلًا للبوذية فيما بعد، ولكنه إنجيل أخلاقي وليس ديني لأن بوذا لم يكن يدعو إلى السماء بل العودة إلى الأرض وتحقيق سلام نفسي مع العالم والآخر، وكبح جماح الإفراط. وكان الهنود قبل بوذا بعدة قرون يقدمون العديد من القرابين، والتي كانت من الحيوانات وفي
أحيان نادرة من الإنسان، وكانت العبادات تقوم على التخويف والمنفعة أكثر من كونها مشاعر دينية روحانية، ثم شيئًا فشيئًا بدأ التدرج في الاعتقاد بوجود إله واحد
للكون
أطلقوا عليه لفظ (براجاباتي)، وهو لا ملمح له ولا يمكن تخيله، وهذا البراجاباتي وفق العقيدة الشعبية آنذاك كان كائنًا واحدًا وانفصل إلى زوجين، ذكر وأنثى ثم ضاجع
كلاهما الآخر وأتى من خلالهما نسل العالم، بدأ في عصر ما بعد الفيدات وهي أولى الكتب الهندية المقدسة، ظهور اعتقاد جديد حول الإلهية وهو الإيمان بما يسمى
(البراهما) الإله الأعظم للكون، وذلك التصور ظهر في (الأوبانيشاد) وهي المرحلة المتقدمة للكتب الهندوسية التي مثلت تطورًا ملحوظًا في العقلية الهندية، والتي انتقلت من مرحلة الطوطمية والبدائية الدينية إلى مرحلة الوعي الفلسفي، وفي هذه المرحلة طُرحت أسئلة حول ماهية الله والعالم والإنسان، وخلصوا إلى القول بوجود البراهما
الواحد وهو كلي القدرة ومنه جاءت كل الموجودات بل كل الموجودات تجليات ورموز له، وهو لا سبيل إلى إدراكه إدراكًا حسيًا، ولكن يمكن إدراكه من خلال الحدس فقط، ولكن كيف للمادي أن يدرك ما هو غير مادي؟ هنا اندفع الحكيم الهندي نحو بؤرة من التساؤلات، فهل هذا الجسد هو صورتي الحقيقية؟
أم ثمة حقيقة أخرى لا أبصرها بعيني؟ ومن هنا تم تسليط الضوء على أحد الكتب المقدسة التي أجابت عن مثل هذه التساؤلات وهو
ما سموه (البهاغافاد جيتا) أو أنشودة المولى، ويقول الرب في الجيتا: ( أن من يعرف حقيقتي يرى أن الماء والأرض والسماء والنار والرياح كلها مكوناتي السفلية
“البراهمان” ولكن مكوني العلوي هو الروح التي تحرك الكون والموجودات)، فالبراهمان تجلي روح الله في الطبيعة كما أن (الإتمان) تجلي روحه في الإنسان.
يقول الرب في الجيتا أن من يعبد الآلهة يذهب إلى الآلهة، ومن يعبد الأشباح يذهب إلى الأشباح، ومن يعبدني يأتي إليّ، حتى من عاش حياة شر ثم أتاني
مخلصًا فإن روحه تدخل في السلام الأبدي.
ويذكر (البيروني) وهو أحد أهم الفلاسفة المسلمين أن الهند قد اختلفت في إدراكها لحقيقة الله وانقسموا في ذلك فئات وطوائف، فهناك من لم يستطع تجاوز الحسي
وصولا إلى المطلق، وهؤلاء يعبدون الرب في قوى الطبيعة من أقانيم طبيعية أو حيوانية، وهناك الخاصة الذين تجاوزوا المحسوس والمطبوعات وصولا إلى الجذور
وإدراك الله الواحد الكامن وراء كل تلك الموجودات، ومما لا شك فيه أن الوعي الهندي مر عبرسلسة طويلة من التطور في التعامل مع النصوص المقدسة، وتجديد التراث الديني وتغيير التأويل الفقهي للنصوص مما أحدث طفرة في الوعي الهندي المعاصر.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل