في رواق مستشفى المجتهد الحكومي في دمشق، امتزجت أصوات البكاء مع صرخات أمهات: «أين أولادنا؟»، بعدما توافد عشرات السوريين للتعرّف على جثث معتقلين نُقلت إلى المكان وتحمل آثار تعذيب وكدمات.
تسند نساء أنفسهن على الجدران، ويخرج رجال ومعالم الصدمة واضحة على وجوههم بعد معاينتهم صور نحو 35 جثة كانت فصائل معارضة عثرت عليها ليل الاثنين داخل مستشفى حرستا قرب دمشق.
في الباحة الخارجية للمستشفى، تقف طبيبة تحمل دفترا وقلما، وتتوجّه إلى الموجودين بصوت عال: «من تعرّف على الجثة رقم تسعة؟».
بالقرب منها، افترشت مجموعة من الأهالي الأرض، يعاينون صور الجثث التي وصلتهم إلى هواتفهم. من يتعرّف على جثة في الصور التي تحمل أرقاما، يبلّغ طاقم المستشفى الذي يخرج الجثة من البرّاد، ويسمح للشخص بالدخول لمعاينتها والتأكد مما إذا كانت عائدة لقريبه أو لا.
تخرج امرأة من المشرحة ويدها ملطّخة بالدماء. وتصيح أكثر من مرّة: «لا يزال دمهم جاريا».
لا تتمالك أخرى نفسها وتنفجّر باكية بعد أن تعرّفت على ابنها. لا تقوى على أن تجيب عن أي سؤال عن تاريخ اعتقاله أو عمره. قربها تقف أمهات يائسات لم يجدن أبناءهن.
على باب براد مستشفى المجتهد، وقفت ياسمين شبيب (37 عاما) دامعة العينين، بعدما لم تجد شقيقها ووالدها اللذين اعتقلا في عام 2013، في عداد الجثث.
وتصيح السيدة القادمة من إدلب في شمال غرب البلاد: «افتحوا لنا أقبية السجون ونحن نبحث عنهم… نبحث عنهم بين الجثث».
– «تحت الأرض»
وتضيف ياسمين لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، وهي تبكي، «وضعوا الناس تحت الأرض، لا في صيدنايا فحسب، سوريا كلها يوجد تحتها صيدنايا»، السجن السيئ الصيت الذي شهد، وفق معتقلين سابقين ومنظمات حقوقية، أسوأ أنواع التعذيب والانتهاكات للكرامة الإنسانية.
ملأ العشرات باحة مستشفى المجتهد الخارجية وأروقته، يسألون كلّ موظف أو طبيب عن مكان الجثث، بقلق وخوف، لكن أيضا رغبة في التخلّص من حالة عدم اليقين حول مصير أحباء اعتقلوا وانقطعت أخبارهم منذ سنوات طويلة.
فور سماعه بإعلان الفصائل المعارضة إسقاط حكم الرئيس بشار الأسد وفراره من سوريا، انتقل نبيل حريري (39 عاما) على وجه السرعة من درعا (جنوب) إلى دمشق، بحثا عن شقيقه المعتقل منذ عشر سنوات. ويقول لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «ذهبت إلى صيدنايا في اليوم الأول، لم أجده». ولم يجد أخاه الذي اعتقل حين كان عمره 13 عاما، بين الجثث في «المجتهد». ويشرح بتأثر بالغ: «كان أخي طفلا، وأكثر الصور التي رأيتها لأشخاص أكبر سنّا». ويضيف: «الغريق يتعلّق بقشة، ونحن نبحث ونسأل»، مشيرا إلى أن والدته «توفيت من شدّة حزنها عليه».
ومع معاينته الصور التي تظهر آثار تعذيب شديد وكدمات، يقول: «أن يكون شقيقي قد توفي أفضل من أن يكون عند النظام».
– «أحرقوا قلبي»
من أعزاز في شمال سوريا، حضرت زهية رزوق (60 عاما) إلى المستشفى علّها تجد جثمان ابنها مهيار. وتقول باكية: «كان ابني طالب جامعة في الرابعة والعشرين. أخذوه وأحرقوا قلبي» عام 2011، إثر بدء الاحتجاجات الشعبية السلمية التي قمعتها دمشق بالقوة قبل أن تتحوّل إلى نزاع مدمر تسبّب بمقتل أكثر من نصف مليون سوري. وتضيف الأم المكلومة: «قالوا لي إنه قتل في عام 2014».
وكان فريق من الأطباء بأرديتهم البيضاء والكمامات والقفازات، يكشف على الجثث. ويشرح الدكتور ياسر القاسم، المعاون الطبي في الهيئة العامة للطب الشرعي التابعة لوزارة الصحة، أن «الجثث وصلت من مستشفى حرستا، ولم نحدّد بعد زمن الوفاة أو طريقة الوفاة، لكن ما هو ظاهر أن الوفاة بالنسبة لهؤلاء الأشخاص ليست قديمة».
بحسب فصائل معارضة، عثر على الجثث يوم الاثنين مكدسة داخل غرفة تبريد في مستشفى حرستا، وموضوعة داخل أكياس بيضاء وعليها علامات تعذيب.
وقال محمّد الحاج، أحد مقاتلي «غرفة عمليات الجنوب»، وهو ائتلاف لفصائل معارضة، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» عبر الهاتف حينها: «فتحتُ باب غرفة التبريد بيدي. كان المشهد مهولا، حوالى أربعين جثة مكدّسة داخلها وعليها آثار تعذيب لا يصدّقه عقل».
– «أحياء أم أموات؟»
وأظهرت صور ومقاطع فيديو التقطها الحاج داخل مستشفى حرستا، جثة شخص اقتلعت عيناه، وآخر اقتلعت أسنانه، ودماء تجمّدت على وجنة ثالث، بينما كانت الكدمات واضحة على أجساد آخرين. وبين الجثث، صرّة داخلها عظام وجثة شخص قفصه الصدري ظاهر.
وشكّل مستشفى حرستا، وفق ما قال دياب سرية من رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، «مركزا رئيسيا لتجميع الجثث الآتية من صيدنايا أو مستشفى تشرين قبل نقلها إلى مقابر جماعية». وأضاف معلّقا على مقاطع الفيديو التي التقطها الحاج: «من الضروري أن يتم توثيق ما رأيناه في هذا الفيديو من مستشفى حرستا»، مرجّحا أنها «جثث معتقلين» كانوا في صيدنايا.
ووفقا لـ«المرصد السوري لحقوق الإنسان»، قضى نحو ستين ألف شخص تحت التعذيب أو بسبب ظروف الاحتجاز المريعة في السجون السورية، ودخل نصف مليون شخص سجون السلطة، منذ بداية الحرب، وفقا للمصدر ذاته.
ولم يجد سائق الأجرة خالد حمزة (60 عاما) ابنه الشاب في سجن صيدنايا ولا في مستشفى المجتهد. لكنه يقول إنه عثر في صيدنايا على أوراق وسجلات عليها أسماء سجناء قرّر تقديمها إلى الشرطة، أملا في أن تساعد في العثور على مفقودين.
ويقول من أمام مركز شرطة دمشق الذي بدأت «هيئة تحرير الشام» تسيير شؤونه، «الملايين يبحثون عن أولادهم، نريد أن نصل إلى شيء ما، أن نعرف هل هم أحياء أم أموات؟».
المصدر : وكالات