«البلاط العتيق» حرفة فنّية لبنانية تُعاند شكل الزمن – مشاهير

إسلام جمال17 ديسمبر 20243 مشاهدة
«البلاط العتيق» حرفة فنّية لبنانية تُعاند شكل الزمن – مشاهير


اصطفَّت بلاطات بالألوان، لا تشبه الدارج عادة في أرضيات المنازل، أمام عينَي غسان فياض في عمر الشقاوة، فكسرها ليسند خيمة صمّمها للعب الخارجي. غضب الجدّ، فنال الحفيد نصيبه مما اقترفت اليدان بحقّ البلاطات الفريدة. صعُب إيجاد مثيلها، فالحرفة أخذت تتضاءل، واقتصر انتشارها على مساحة تضيق. كبُر الحفيد وتخرّج مهندساً داخلياً، ليصنع ما خرَّب ذات يوم من عمر اللهو. في منطقة معاصر الشوف المُجاورة غابةَ أرز الشوف، حيث الأخضر يمنح المشهد جمالاً خلّاباً، يصبُّ غسان فياض البلاط بقوالب فنّية تروي حكاية.

الحرفة تتضاءل ويقتصر انتشارها على مساحة تضيق (صور غسان فياض)

وُلد المشروع عام 2017؛ وفي داخل منزله بقرية المعاصر الشوفية، يكمُن المُحترَف. مسار العملية يمرّ عبر قالبَيْن: النحاسي والحديد. يقول المهندس اللبناني لـ«الشرق الأوسط» إنّ أصل البلاط الذي يعدُّه إسبانياً، وصل إلى بلاده قبل نحو 120 عاماً، وشهد مراحل انتشار. حلَّ الخفوت بعد الحرب الأهلية، ومع السنوات ندُرت الأيدي المهتمّة بتفاصيله، فقلَّ صنَّاع البلاط المصبوب بفرادة: «بدت العودة صعبة، فالمواد لم تتوافر باليُسر الذي كانت عليه، والمنحى التجاري غلّاب».

في داخل منزله بقرية المعاصر الشوفية يكمُن المُحترَف (صور غسان فياض)

حكاية بلاطات غسان فياض لها رائحة حنين. تُذكِّر بمنازل الأجداد ولمسات الماضي الجميل. بالنسبة إليه، البلاطة هي خليط القديم والجديد، «فنحافظ على هوية البلاطة العتيقة، لكن بروح مُعاصرة». لعلَّ تلك الحادثة في منزل جدّه، جعلته يمتهن، حين كبُر، حرفة تعيد الآخرين بالذاكرة إلى بيوت عائلات القرى. وربما شقاوة الطفولة أشعلت رغبةً في التعويض، فتجلَّت الموهبة.

كما لا تُشبه فخّارةٌ أخرى، حين تُعدِّها أصابع الحرفيّ، يقول إن بلاطه لا يشاء التطابُق ويأبى الشكل «المثالي». غسان فياض يتعامل مع الحرفة بصفتها فناً: «البلاط مصنوع من إحساس. يدي تؤدّي الوظيفة، لكنّ إحساسي يمنحها الحياة».

إنه خليط القديم والجديد (صور غسان فياض)

الكادر الأساسي قالبٌ حديد، يتبعه كادرٌ آخر للرسم مادته من النحاس. يتحدّث فياض عن «التحرُّر من الكاتالوغ»، فالمشتري أو المتفرِّج ليس محصوراً في الخيارات المتاحة ضمن كُتيّب لا يملك قراراً خارجها، وإنما هو «سيدّ التصميم»؛ وما يَدَا المهندس سوى مساهمتين في العملية بدَفْع من إحساسه ولمساته. يقول: «لديّ كُتيّب، لكنّ فنّ هذه الحرفة يكمُن في الابتكار. العمل خارج الكاتالوغ، ووَضْع الألوان في سياق آخر، يجعلان البلاط العتيق خاصاً. وبدل رسم وردة تتشابه مثلاً، يحدُث الصبُّ بلونَيْن أو 6 ألوان. الخيار حرّ».

يصبُّ البلاط بقوالب فنّية تروي حكاية (صور غسان فياض)

يُحيِّد نفسه عن مزاج السوق التجارية، ويؤكد: «هذه الحرفة فنّية وفرصة لإنجاز ما يستهويني». بعد الحرب، سأله جنوبيٌّ من مدينة صور إعادة تصميم بلاط منزله المُتهالك بعد التخلُّع. يُخبر أنّ عمر ذلك البلاط كاد يتجاوز القرن، وأصرَّ صاحب البيت على طابع مُشابه: «الرسوم قديمة، ففصَّلتُ من أجلها قوالب مناسبة. ذلك القديم حوّلته جديداً تقريباً. حافظ على طابعه بروح العصر».

أصل هذا البلاط إسباني ووصل إلى لبنان قبل 120 عاماً (صور غسان فياض)

يشدِّد غسان فياض على أنها «مهنة صعبة»: «المسألة ليست في التخزين، فهي عمل يدويّ وفق الطلب. بعد الإحساس، لا بدّ من الصبر. كل بلاطة هي خلاصة هذه الثلاثية: الشغف، والشعور، وطول البال».

يذهب بعيداً حين «يمنع» على المشتري أو المتفرّج النظر إلى عمله «بعين المُستهلك»: «عليهم إدراك الفرادة الفنّية. لا تُشبه بلاطةٌ أخرى. لستُ أعمل وفق مبدأ (الكوبي بيست). جميع المراحل يدوية، وتراعي أيضاً الشروط البيئية».

البلاط مصنوع من إحساس (صور غسان فياض)

مع غسان فياض، يُعاد إحياء هذه الحرفة الآيلة، تقريباً، إلى زوال في لبنان. يصف انتشارها بـ«البطيء جداً، لطغيان الهَمّ المادي». يمتنّ لأرباح يحقّقها، رغم إدراكه أنها «حرفة لا تدرُّ ثروات». يُذكِّر مجدّداً بالصبر، كما في ابتكار القوالب، كذلك في توقُّع الربح.

نفَّذ مشروع «زنار طير الهدهد» في أحد بيوت محمية أرز الشوف حيث يلتقي مديروها؛ فالطبيعة تُلهمه، وعناصرها تُشكِّل كثيراً من رسومه وألوانه. هناك، بين الأشجار المُعمِّرة والغطاء الأخضر الشاسع، يُنظّم ورشات عمل لتعريف الجيل الشاب بالمهنة، وجَعْلهم يحاولون المساعدة في صناعة بلاطة. بالنسبة إليه؛ «ليتني أنقل حبّها، فتبقى أطول». يعتب على الإهمال الحكومي، فالاكتراث شحيح بهذه الحرفة وسواها مما لم يعُد أولوية السوق. يُعدّد: «صناعة الأجراس في منطقة بيت شباب، ونفخ الزجاج في منطقة الصرفند، والفخار في قرى قليلة… كلها تعاني. هذه الحِرف بعض تراثنا، بعنادنا ننقذها».


المصدر : وكالات

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل