«بادينغتون في البيرو»… الدب الأشهر يحفّز البشر على مغادرة منطقة الراحة
ليس الدب «بادينغتون» مجرّد شخصيةٍ كرتونيّة تظهر على الشاشة بين الحين والآخر لترفيه الأطفال. لقد باتَ واحداً من رموز بريطانيا وسفرائها، إلى درجة أنه رافق الملكة إليزابيث في احتفاليّة يوبيلها البلاتينيّ عام 2022، من خلال مقطع تمثيليّ مميّز جمعهما.
في إطلالته الثالثة عبر شاشة السينما ضمن فيلم «Paddington in Peru» (بادينغتون في البيرو)، يخطو الدب المحبوب خارج المملكة المتحدة، عائداً إلى جذوره وتحديداً إلى البيرو في أميركا الجنوبية، على ما يشير العنوان. وبما أن بادينغتون بات شخصية عابرة للحدود، فإنّ الفيلم الجديد عبرَ هو الآخر إلى قاعات السينما حول العالم، فكانت للصالات العربية فرصة استقباله قبل سواها من صالات أوروبا، وآسيا، وأميركا اللاتينية، وحتى الولايات المتحدة الأميركية.
يوم اخترع مايكل بوند شخصية الدب «بادينغتون» عام 1958، جاء الأمر كردّ فعلٍ على ما كان يتعرّض له المهاجرون إلى بريطانيا من أعمال كراهية. جعل الكاتب من بطلِ سلسلته دباً يتيماً آتياً من آخر أصقاع الأرض، ليجدَ في لندن عائلةً تحتضنه وتتبنّاه.
خرجَ بادينغتون لاحقاً من الكتب إلى شاشتَي التلفزيون والسينما. وها هو في الجزء الثالث من أفلامه، يكرّس انتماءه البريطاني بحصوله على جواز سفر البلاد. يدشّن هذه اللحظة الاستثنائية برحلةٍ لم تكن في الحسبان، إذ يتلقّى رسالة من دار الدببة المسنّة في البيرو حيث عمّته «لوسي» التي تُمضي وقتاً عسيراً بسبب اشتياقها إليه.
يحزم أفراد عائلة «براون» أمتعتَهم ويرافقون ابنَهم بالتبنّي إلى موطنه الأصليّ للاطمئنان على عمّته. وهنا تكمن إحدى الرسائل الأساسية التي يتضمّنها الفيلم: ضرورة الخروج من منطقة الراحة والتجرّؤ على تحدّي الذات. والد بادينغتون بالتبنّي، «هنري براون»، بحاجةٍ إلى نقلة جريئة في وظيفته. والوالدة «ماري» تتمنّى أن تلمّ شمل العائلة، بعد أن انصرف الولدان «جوناثان» و«جودي» كلٌ إلى اهتماماته وعُزلته. أما بادينغتون فلا بدّ له أن يرجع إلى تلك الأرض التي خسر فيها أبوَيه وخرج منها يتيماً.
صحيحٌ أن الفيلم يفتقد عنصر الدهشة الذي رافق الجزء السابق عام 2017، لكن قد يكون من الظلم مقارنة أي مغامرة جديدة لبادينغتون بذلك الجزء الذي شكّل تحفةً سينمائية وسط إجماعٍ من النقّاد والجمهور. مع العلم بأنّ العمل الجديد لم يستعِن بالمخرج والكتّاب أنفسهم الذين أنجزوا الجزأين السابقَين.
يتّخذ «بادينغتون في البيرو» شكل فيلم المغامرة بامتياز، فيزخر بالحركة والألوان والمواقف التي تقطع الأنفاس. ربما تنقصه بعض الفكاهة، لكن ثمّة ما يعوّض عن ذلك.
فور وصولها إلى دار المسنّين، تكتشف عائلة براون مجموعة من الراهبات اللطيفات اللواتي يعتنين بالدببة العجوزة. لكن الاكتشاف الآخر ليس على القدر ذاته من الإيجابية، إذ يتبيّن أن العمّة لوسي قد اختفى أثرُها.
إلى غابات الأمازون الشاسعة والخطيرة، تنطلق العائلة بتوجيهٍ من الراهبة المديرة والتي تؤدّي دورها بتألّقٍ كبير الممثلة البريطانية أوليفيا كولمان. لكن لا طريق إلى المكان الذي قد توجد فيه العمة لوسي، سوى نهر الأمازون الهادر. ولا قبطان يقود رحلة الدبّ الصغير وعائلته، سوى الممثل أنطونيو بانديراس الذي تشكّل إطلالته صدمة إيجابية في الفيلم.
اعتادت سلسلة بادينغتون السينمائية أن تستعين بكبار النجوم، على غرار نيكول كيدمان وهيو غرانت في الجزأين السابقين. ورغم أنّ الابتسامات نادراً ما تتحوّل إلى ضحكات في هذا الجزء، فإنّ حضور بانديراس وكولمان، إضافةً إلى شخصية بادينغتون الذي يؤدّي صوته الممثل بن ويشا، تجعل من الفيلم رحلةً ممتعة ومليئة بالإثارة.
خلف موهبتها الموسيقية التي تعيد إلى الأذهان فيلم «The Sound of Music»، تخبّئ الراهبة (كولمان) لغزاً غير مريح. أما القبطان (بانديراس) فليس بالشهامة والاتّزان اللذَين يظهران عليه بدايةً. ففيما يقتصر هدف بادينغتون على إيجاد عمّته التائهة، تختبئ أطماع أخرى خلف سعي الراهبة والقبطان وراء الدب وعائلته؛ عيونهما شاخصة إلى الـ«إل دورادو» حيث يتوجّه بادينغتون؛ أي بلاد الذهب.
على مدى ساعة و45 دقيقة، سيكون من الصعب على المشاهد أن يحيد بطرفه عن الشاشة، فالحركة لا تتوقّف والأخطار تتوالى، كما أن الحبكات كثيرة ومتداخلة إلى درجة أنها قد تصيب المتلقّي بالتيه أحياناً. ولعلّ أكثر ما يبرع فيه فريق «بادينغتون في البيرو» هو تصميم الإنتاج، الذي يجعل من كل مشهدٍ مساحةً ملؤها الألوان والأسرار. تُضاف إلى ذلك صور الطبيعة المتوحّشة والأخّاذة في آنٍ معاً، والتي تشكّل هي الأخرى متعةً بصريّة.
يمزج الفيلم ما بين الرسوم والمتحرّكة والمشاهد الواقعية، على غرار ما يفعل مع الشخصيات إذ يتلاقى البشر الحقيقيون والدببة المتحرّكة بسلاسة. ومن اللافت أنّ فريق الإنتاج، ولإضفاء مزيدٍ من الواقعيّة، حرص على تصوير الجزء الأكبر من الفيلم في مواقع متعددة من البيرو كالعاصمة ليما وأهرامات الماتشو بيتشو. كما جرى تصوير المشاهد المتبقية في كولومبيا ولندن.
في زمن لا تأخذ فيه غالبية الماكينات الإعلامية والترفيهية عقول الأطفال على محمل الجدّ، ما زال «بادينغتون» قادراً على تقديم محتوىً نموذجيّاً يليق بالصغار والبالغين على حدٍ سواء. إضافةً إلى الثراء البصريّ والبذخ الإنتاجيّ، تلامس الرسائل التي يحتويها الفيلم القلوب والنفوس. يبقى الدب اللطيف خيرَ سفيرٍ لقيَمٍ إنسانية مثل التسامح وتقبّل الآخر على اختلافاته.
وفي هذا الجزء، تتّسع مروحة المعاني لتشملَ تشجيعاً على خوض المخاطر والخروج من مساحة الأمان، لأنّ التعويض قد يكون اكتشاف الجذور وملاقاة الذات الحقيقية والتصالح معها.
المصدر : وكالات