كشفت أعمال المسح المستمرة في سلطنة عُمان عن سلسلة من المواقع الأثرية، من أبرزها موقع خور روري الذي ضمَّ في الماضي مدينة عُرفت باسم سمهرم، وميناء اشتهر بتجارة اللبان من جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية. خرجت من هذه المدينة الأثرية مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من المجامر الحجرية، دخل عدد كبير منها المتحف المعروف باسم «متحف أرض اللبان» في مدينة صلالة بولاية ظفار.
عُثر على عدد من هذه المجامر في المعبد الكائن وسط الجانب الشمالي من سمهرم، وعُثر على عدد آخر منها في مبانٍ سكنية، والأكيد أنَّها كانت مخصَّصة لحرق البخور. شاعت صناعة المجامر بشكل واسع في الشرق القديم، وارتبطت بشكل كبير بالعبادات الدينية، كما يشهد كثير من النصوص الأدبية، وأشهرها تلك التي وردت في التوراة. حسب ما ورد في «سفر الخروج»، كان هارون يوقد البخور ليكون «بخوراً دائماً أمام الرب» (30: 8)، وكان هذا البخور مزيجاً من مواد عدَّة: «ميعة وأظفاراً وقنة عطرة ولباناً نقياً»، في «أجزاء متساوية»، تُنتج «بخوراً عطراً صنعة العطَّار، مملحاً نقياً مقدساً» (30: 34-36).
مُنع استعمال هذا البخور خارج «بيت الرب»، وعهد إلى الكهنة وحدهم بإشعاله، وهم «الكهنة من بني هارون المقدّسين للإيقاد»، كما جاء في سفر الأخبار الثاني (26: 18). هكذا ارتبط هذا البخور المتّقد بالعبادة، وكان رمزاً للصلاة، كما يقول المزمور 141: «لتستقم صلاتي كالبخور قدامك».
شاع تقديم البخور في الاحتفالات الدينية في سائر أنحاء الشرق القديم، وبات لكل أمة من هذه الأمم تقليد خاص بهذه الخدمة. كان هذا البخور يُحرَق في آنية تحوي جمرات مشتعلة، وهي المجمرة، وكانت صناعة هذه المجامر تعتمد على أساليب محلّية متعدّدة تتجلّى في صياغتها.
خرجت من جنوب الجزيرة العربية مجموعة كبيرة من المجامر، تشهد لأسلوب خاص تعدّدت فروعه على مرّ قرون طويلة من الزمن. ومن شرق هذه الجزيرة، خرجت مجموعة أخرى من المجامر تعكس أثر هذا التقليد، وأبرزها تلك التي تعود إلى قرية الفاو التابعة لمحافظة وادي الدواسر في منطقة الرياض.
تشكّل مجامر سمهرم فرعاً آخر من فروع هذا التقليد، كما تشهد تكويناتها ونقوشها المختلفة. يصعب تأريخ هذه المجامر، والأكيد أنها تعود إلى القرون التي شهدت ازدهار سمهرم واندثارها التدريجي، في الفترة الممتدة بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الخامس للميلاد.
تعتمد هذه القطع في أغلب الأحيان تكويناً مختزلاً يتألف من وعاء مكعّب يستقر فوق قاعدة مستطيلة. تزيّن هذه الأوعية المكعّبة نقوش يغلب عليها الطابع الهندسي، تمتدّ على مساحة قواعدها المستطيلة.
يظهر هذا التقليد بشكل جلي في 3 مجامر وصلت بشكل شبه كامل، تُعرَض اليوم في «متحف أرض اللبان» الذي شُيّد في متنزه البليد الأثري بمنطقة الحافة، في مدينة صلالة التابعة لمحافظة ظفار.
تتكوّن أصغر هذه المجامر من مكعب عريض يستند إلى قاعدة هرمية قصيرة. يزيّن واجهة هذا المكعّب نقش ناتئ يمثّل هرماً هو قاعدة لهلال يحتضن قرصاً دائرياً. يُعرف هذا العنصر التشكيلي بالزخرف الكوكبي، وهو من العناصر التي اعتُمدت بشكل واسع في جنوب شبه الجزيرة العربية منذ القرن الخامس قبل الميلاد، ودخلت نواحي أخرى من الجزيرة، كما يشهد كثير من القطع الأثرية التي خرجت من جزيرة الفاو. يُعد الهلال والقرص الدائري من الرموز الكوكبية، والأكيد أن هذه الرموز لم ترتبط حصرياً بمعبود واحد؛ إذ نجدها على مذابح ومجامر مهداة إلى كثير من المعبودين، منهم ودّ والمقه وشمس.
يحتلّ هذا الزخرف الكوكبي واجهة مجمرة أخرى من سمهرم يبلغ طولها 31 سنتيمتراً؛ حيث يحضن هلالاً آخر أصغر حجماً يستقرّ في وسط أعلى التأليف. في المقابل، تزين جنبَي مكعّب هذه المجمرة شبكة من النقوش المكعّبة المتوازية الناتئة، وتزين قاعدتها العمودية المستطيلة سلسلة من 4 أدراج أفقية متراصة ناتئة. تظهر هذه الشبكة من المكعبات المتوازية على مجمّرة طولها 36 سنتيمتراً، تستقرّ فوق قاعدة هرمية مجرّدة من أي زينة. تحتل هذه الشبكة الهندسية واجهة المجمّرة، وتتألف من 3 صفوف أفقية، يحوي كلّ منها سلسلة من المكعّبات الناتئة. يعلو هذه الصفوف شريط أفقي مجرد، وتحدّها في القسم الأسفل سلسلة من الأسنان تتدلّى منها كتل دائرية، في تأليف غير مألوف يهب هذه القطعة طابعاً محليّاً مميزاً.
يظهر الزخرف الكوكبي على مجمّرة أخرى من سمهرم يبلغ طولها 30 سنتيمتراً، وهي من القطع التي عُرضت في معرض خاص بميراث سلطنة عُمان، أقيم في مدينة ليون الفرنسية في خريف 2022، وحمل عنوان «رحلة في بلاد البخور». عُثر على هذه القطعة خلال عام 2008، ودخلت المتحف الوطني في مسقط، وهي مكوّنة من قاعدة هرمية تزيّنها مساحات عمودية ناتئة، ومكعّب عريض يحمل نقوشاً تصويرية حيوانية، تحضر هنا بشكل استثنائي.
يحتلّ الزخرف الكوكبي واجهة المكعّب وفقاً للتقليد السائد. يحضر الهلال فوق الهرم، ومن فوقه يستقرّ القرص الذي يرمز إلى الشمس أو إلى كوكب الزهرة. يظهر طير يفتح جناحيه العريضين على أحد طرفي المكعّب، ويبدو هذا الطير أشبه بالنسر. ويظهر حيوان ذو 4 قوائم في وضعية جانبية على الطرف المقابل، ويبدو هذا الحيوان أشبه بالفهد. في المقابل، تظهر شبكة مكعبات على الواجهة الخلفية، وهي على شكل تخطيط رقعة الشطرنج، حُدّد بخطوط غائرة بسيطة.
تمثّل هذه النماذج الأربعة النهج المتبع في صناعة المجامر الحجرية في هذه الناحية من جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية. يعكس هذا التقليد الأثر الكبير الذي تركه في جنوب شبه الجزيرة العربية، كما يعكس خصوصية محلية تظهر بوجه خاص في الأسلوب المختزل الذي ساد ما وصلنا من نتاج سمهرم في هذا الميدان.
المصدر : وكالات