قبل أن يراوده طموح السياسة، كان دونالد ترمب عاشقاً لأضواء الشهرة. يرمي بنفسه في دورٍ سينمائي صغير، ثم يقضي 10 أعوام في تقديم برنامج تلفزيوني، ولا يتردّد في الظهور ضمن إعلاناتٍ تجارية.
وعندما حلّ موسم الرئاسة في مسيرته الحافلة، نقل المرشّح الجمهوري هواية الاستعراض تلك إلى حملاته الانتخابية، ولاحقاً إلى البيت الأبيض عندما انتُخب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية عام 2017.
في الجزء الثالث من مسلسل ترمب الرئاسي، يتّخذ الاستعراض بُعداً ترفيهياً جديداً وحيّزاً شعبوياً أوسع، ضمن ما يبدو استراتيجيّة تسويقية يصفُها معارضوه بالمخادِعة. فبمساعدة حِيَل الذكاء الاصطناعي، وضجيج وسائل التواصل الاجتماعي، يحرص ترمب على ألّا يمرّ أسبوع من دون أن يجعل من نفسه حديث الإعلام، متسلّحاً بشخصيته الغريبة وبلسانه السليط.
شاحنة ترمب للنفايات
من بين آخر فصول الترفيه، ارتداءُ ترمب سترة عامل نظافة فور وصوله إلى مطار ويسكونسن وانتقاله مباشرةً إلى شاحنة قمامة تحمل اسمه وشعار حملته. في تلك الحركة التي لم يسبقه إليها أي سياسيّ آخر، اصطاد ترمب عصفورَين بحجرٍ واحد؛ فهو ردّ على الرئيس الأميركي جو بايدن الذي كان قد وصف مناصريه بالقمامة، كما أنه حاول استمالة الناخبين الذين يسمّيهم «الأميركيين المنسيين»، كعمّال النظافة على سبيل المثال.
متابعاً عرضه الصادم، توجّه ترمب إلى الصحافيين الموجودين في المطار قائلاً: «هل أعجبتكم شاحنة نقل النفايات خاصّتي؟ إنها على شرف كامالا وبايدن». وعند وصوله إلى مقرّ حملته، كان لا يزال مرتدياً السترة البرتقالية.
«دونالد ماك دونالد»
عشيّة ساعة الصفر وفتح صناديق الاقتراع، كثّف ترمب من إطلالاته الخارجة عن المألوف. فقبل أيام من عرض القمامة، كانت له محطة في أحد فروع «ماك دونالدز» في ولاية بنسلفانيا، حيث وقف في حجرة الطهو غارفاً البطاطا المقليّة ومناولاً إياها للزبائن في سياراتهم ومتحدثاً إليهم.
بدا مرتاحاً بالمريلة الخاصة بمطعم الوجبات السريعة، معلناً: «لقد أردت أن أفعل ذلك طيلة حياتي». في هذا المشهد كذلك حقق ترمب هدفَين؛ ردّ أولاً على منافسته الديمقراطية كامالا هاريس التي صرّحت بأنها عملت في «ماك دونالدز» خلال فترة الدراسة، ما اعتبره ترمب كذبة. من جهة ثانية، تعمّد التماهي مع الطبقة العاملة جذباً لتعاطفها. وفي حال لم يُكسبه أداؤه هذا أصواتاً، فقد منحه لقباً جديداً: «دونالد ماك دونالد».
39 دقيقة رقص
خلال أحد تجمّعاته الانتخابية في بنسلفانيا مطلع أكتوبر (تشرين الأول)، وبعد أن أُرغم على التوقّف عن الكلام بسبب إصابة شخصَين من الحضور بحالتَي إغماء، سأل ترمب الجمهور المحتشد: «هل يرغب أحدٌ منكم بعدُ بالإغماء؟»، ثم تابع قائلاً إنه لن يأخذ مزيداً من الأسئلة، وأضاف: «فلنستمع إلى الموسيقى». وما كان منه بعد ذلك سوى أن يتمايل ويرقص على خشبة المسرح خلال 39 دقيقة متواصلة. استعانَ في رقصته الطويلة تلك بقائمة موسيقية ضمّت 9 من أغانيه المفضّلة. ومن المعروف أن ترمب وظّف هواية الرقص تلك في محطاتٍ عدة من تجمّعاته الانتخابية.
ترمب يراقص إيلون
لم يكتفِ ترمب بالرقص الواقعيّ، بل انسحبت موهبته على العالم الافتراضي، حيث أعاد نشر فيديو من صناعة الذكاء الاصطناعي، يُظهره راقصاً إلى جانب صديقه الملياردير إيلون ماسك. وكان الأخير هو الذي بادر إلى نشر الفيديو أولاً، ما أثار إعجاب ترمب الذي لا يتوانى عن الاستعانة بالفيديوهات المزيّفة والصور المركّبة في حملته الانتخابية.
«أنا أكره تايلور سويفت»
في إطار لجوئه إلى الصور المركّبة وتبنّيه الأخبار الزائفة كسلاحٍ انتخابي، نشر ترمب صورة من صناعة الذكاء الاصطناعي تظهر فيها المغنية الأميركية تايلور سويفت وهي تطلب من الناس أن يصوّتوا له.
سويفت التي تُعتبر ماكينة انتخابية بذاتها نظراً لجماهيريّتها الضخمة، أعلنت في وقتٍ لاحق تأييدها لكامالا هاريس، ما دفع بترمب إلى التغريد بحروفٍ كبيرة: «أنا أكره تايلور سويفت». وهو قد يكون بذلك المواطن الأميركي الوحيد الذي «يكره» محبوبة الجماهير، مع العلم أن أياً من الفنانين المعروفين لا يقف إلى جانب ترمب في سباقه إلى البيت الأبيض، بل هم يفضّلون دعم مُنافسته.
مطلوب للعدالة
وإذا كانت صورة تايلور سويفت مزيّفة، فإنّ الصورة التي افتتح بها ترمب عامَه الانتخابي حقيقية وهي دخلت التاريخ بفرادتها؛ فعلى هامش محاكمته بجرائم مالية وقضايا تزوير انتخابيّ، التُقطت له صورة في أحد سجون أتلانتا كتلك الصور التي تُنشر للمطلوبين إلى العدالة. أما عن دخول تلك الصورة التاريخ من الباب العريض؛ فلأنّ ترمب هو أول رئيس أميركي تُلتقط له صورة «مطلوب».
شكّلت تلك المحاكمات حدثاً عالمياً، أما الصورة الشهيرة التي ظهر فيها متجهّماً وغاضباً، وكأنه يتقمّص دور المجرم، فقد تحوّلت إلى مادة إعلامية دسمة. عن تلك اللقطة تحدّث ترمب قائلاً: «لم يكن شعوراً مريحاً، خصوصاً أنني لم أرتكب أي خطأ». أما بايدن فعلّق عليها ساخراً: «شابٌّ وسيم».
حرب الكلام
لم يلعب خطاب الكُره والتحريض وحملات التشويه المتبادلة دوراً في تاريخ الانتخابات الأميركية كما حصل في انتخابات 2024. ولم يوفّر ترمب لسانه السليط في تلك اللعبة الصاخبة.
«إنهم يأكلون الكلاب والقطط»، هكذا هاجم المهاجرين الهايتيين في أوهايو. أما غريمتُه هاريس فقد خصّها بعباراتٍ هدّامة كثيرة، من بينها: «مختلّة عقلياً»، و«شرّيرة»، و«غبية»، و«مجنونة».
حتى أبراهام لينكولن (1809 – 1865) لم يسلم من انتقادات ترمب خلال أحد خطاباته في ولاية آيوا؛ فهو انتقد الرئيس الأميركي الـ16 على «أخطاء ارتكبها قبيل الحرب الأهلية» الأميركية عام 1861. نبش ترمب التاريخ ليَخلص إلى أنه «لولا تلك الحرب لما كان سمع أحد باسم أبراهام لينكولن».
إنها أكثر معركة رئاسية صخباً في تاريخ الولايات المتحدة. فحتى محاولة اغتيال المرشح الجمهوري تحوّلت إلى استعراض، مع وضع مناصريه ضماداتٍ على آذانهم تضامناً معه.
المصدر : وكالات