اعتاد الطلاب الجامعيون طيلة العقود الماضية، التجمع في شارع عرابي باشا في عاصمة سريلانكا «كولومبو»، لكن كان هناك 92 يوما فاصلة في تاريخ هذا البلد الذي يرتبط في أذهان المصريين بشيئين لا ثالث لهما، الثورة العرابية والشاي السريلانكي، ليصبح السؤال هنا.. كيف حضرت روح الزعيم المصري الذي نفي إلى تلك الجزيرة منذ قرن وأربعة عقود رغما عنه من قبل الاحتلال الإنجليزي، في تلك الثورة الشعبية على فساد الرئيس غوتابايا راجاباكسا؟
مسلمو سريلانكا يحتفلون سنويا بذكرى وصول أحمد عرابي
«الوطن» تواصلت مع الكاتب السريلانكي ثيبان بيرينباراسا، من أجل سرد المتبقي من سيرة «عرابي» في هذا البلد النائي الذي كان يسمى حينها سيلان، ليسرد لنا تفاصيل بيت وشارع وذكريات شعب مع رجل أتى لأجدادهم منفيا ليصير رمزا لدى أحفاد قوميتي التاميل والسنهال.
«وصل عرابي باشا الذي نفي من مصر إلى سريلانكا في 10 يناير 1883 على متن سفينة (إس إس ماريوتيس)، حيث شكل وصول هذا المنفي المصري تاريخيا حدثا بارزا دفع الموقف الإصلاحي للمسلمين السريلانكيين، ومن هنا يحتفل المسلمون في البلاد بذكرى وصوله تقديرا لإسهامه الكبير في إحياء التعليم الحديث بين المسلمين»، بحسب حديث الكاتب السريلانكي ثيبان بيرينباراسا لـ«الوطن».
كانت سفينة «إس إس ماريوتيس» قد غادرت السويس في السابع والعشرين من ديسمبر من العام 1882، وبالتزامن مع ذلك الإبحار أرسلت رسالة عبر التليجرام إلى حاكم سريلانكا تفيد بأن هناك مصريين منفيين بأمر الحكم الإنجليزي وجهتهم النهائية ستكون الجزيرة مع توفير أماكن إقامة مؤقتة لهم وتجنب النفقات غير الضرورية.
تشرق شمس الثالث من يناير 1883، وتنشر صحيفة «سيلان تايمز» خبرا خاصا يفيد بأن «ليك هاوس وممتلكات لوس وفانكولنبرج»، تم تعيينها من قبل الحكومة البريطانية من أجل عرابي باشا، وفي اليوم التالي أفادت الصحيفة بتلقي برقية تطلب من الحكومة السريلانكية توفير أماكن لعرابي باشا وسبعة من رفاقه، وبناء على ذلك تم اختيار أماكن الإقامة المؤقتة.
وفي نهاية المطاف، سمح للمنفيين مثل أي لاجئين آخرين باختيار أماكن إقامتهم في الجزيرة، وفي 10 يناير 1883 رست السفينة المستأجرة في ميناء العاصمة كولومبو، وصعد المضيف الرئيسي القبطان دومان وجراح الميناء الدكتور جارفين على متن السفينة وأداوا واجباتهم، ورافقهم نائب الحاكم، السير جون دوجلاس الذي صعد بعد ذلك على متن السفينة. أخيرا ستطأ أقدام عرابي باشا ورفاقه على الأرض بعد أسابيع من الإبحار في مياه المحيط.
في الثاني عشر من يناير 1883 زار عرابي مسجد كولومبو مارادانا لأداء صلاة الجمعة، وفي هذه المناسبة تبعه المسلمون المحليون في موكب كبير، وتدريجيا مارس عرابي باشا تأثيره على حياة المسلمين الذين عاشوا في كولومبو والقرى والبلدات المجاورة الأخرى.
أحمد عرابي شدد على أهمية تعليم اللغة الإنجليزية
ارتبط عرابي بقادة ومثقفين بارزين في الجالية المسلمة السريلانكية وبسبب شخصيته الجذابة بدأ يتألق كفيلسوف وصديق عظيم للمسلمين، وعلى الرغم من أنهم كانوا نشيطين وأثرياء وقادرين، إلا أنهم كانوا بحاجة إلى معلم لتنشيطهم، مما لا شك فيه أن أحمد عرابي باشا حقق توقعات مسلمي جزيرة سيلان.
زار سيدي ليبي، وهو مفكر مسلم بارز من كاندي، أحمد عرابي بشكل متكرر في كولومبو وتبادلا وجهات النظر التقدمية حول مواضيع حيوية مثل التعليم الليبرالي الحديث والتعليم الديني مع التركيز بشكل خاص على دراسة اللغة العربية والأدب.
وشدد عرابي على قيمة تعليم اللغة الإنجليزية، وتحت إلهامه، أسس المحسن الثري وابيتشي ماريكار «كلية الزهيرة» في عام 1892 في كولومبو، والذي تم اختياره كأول رئيس شرفي لها.
ونتيجة ارتباطه بعرابي ورفاقه، اهتم المسلمون السريلانكيون بشدة بدراسة اللغة العربية بهدف رئيسي هو فهم القرآن والأحاديث واعتمدوا اللباس المصري للسراويل وتغطية رؤوسهم بالطربوش أو الطربوش في التقليد الباشوات.
خلال السنوات التسعة عشر التي قضاها في المنفى، ألهم عرابي باشا القوميين السيلانيين وأثر على المجتمع المسلم الذي وجده قادرا على توجيه وصفات الصديق الجيد.
عاش عرابي باشا في كولومبو حتى عام 1892، ثم انتقل إلى كاندي في المنزل المعروف باسم «البيت العربي» حتى تم العفو عنه في عام 1901.
أما مركز عرابي باشا الثقافي الذي تم إنشاؤه في كاندي يعد تكريما رائعا لأحمد عرابي ورفاقه، ومهمته للارتقاء بمستوى تعليم الطلاب الأقل حظا من جميع المجتمعات، حيث يحتوي المركز الثقافي على مكتبة وقاعة للمطالعة، كما يوجد في المركز روضة أطفال يحضرها أكثر من 25 طفلا.
ويقوم قسم الدراسات المهنية بتدريب معلمي مرحلة ما قبل المدرسة الحاصلين على دبلوم، وذكر أن معظم هؤلاء المعلمين هم من القرى المجاورة في كاندي وبمجرد اجتيازهم للامتحان يؤسسون مدارسهم التمهيدية في قراهم.
وبعد العفو عن أحمد عرابي وتحديدا في 17 سبتمبر 1901، أبحرت السفينة الألمانية المعروفة باسم الأميرة إيرين من ميناء كولومبو حاملة عرابي باشا وعائلته إلى مصر حيث وافته المنية يوم 21 سبتمبر 1911.