ووجدت حكومات الدول نفسها أمام خيارات تُوصف بالمحدودة، نظرا إلى المنشأ الخارجي للأزمة، فهي ناجمة بالأساس عن وباء كورونا، وهو ظرف صحي طارئ لم يكن متوقعا، إلى جانب الحرب الدائرة في أوكرانيا وما أحدثته من ارتباك في أسواق النفط وتصدير الحبوب.
وفيما تبدو الصورة على هذه الدرجة من القتامة، اتخذ مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وهو معادل للبنك المركزي، قرارا برفع سعر الفائدة من أجل الحؤول دون مزيد من التضخم.
ويوضح الخبراء أن البنوك المركزية تلجأ إلى رفع أسعار الفائدة، من أجل غاية بسيطة، وهي جعل الناس أقل قدرة على الاستهلاك، ومن المعروف أنه كلما زاد الطلب على سلعة من السلع فإن سعرها يزيد بالضرورة.
على سبيل المثال، فإن الشخص الذي كان يريد شراء سيارة عن طريق قرض سيتردد على الأرجح، بعد رفع سعر الفائدة، لأن التكلفة ستصبح أعلى، وعندما تنصرف ثلة من المستلهكين عن بضاعة ما، فإن ثمنها سينحو إلى الاستقرار، أو أنه سيرتفع بشكل طفيف فقط.
لكن هذا الإجراء يوصف بذي الأثر المحدود، لأن الأسعار ستظل حتما تحت رحمة عوامل خارجية، مثل تكلفة الشحن والاستيراد والتخزين، وفي هذا الصدد، يقول المسؤولون الأميركيون إنهم يقومون بما يرونه مطلوبا، في الوقت الراهن، حتى وإن لم يكن حلا جذريا.
ومن الآثار الجانبية لهذا الحل أنه ينذر بركود الاقتصاد لأن إنفاق الناس سيقل، وهنا يقول الخبراء إن المطلوب هو إحداث نوع من التوازن؛ من خلال ضمان سرعة “معقولة” للاقتصاد، فلا ينمو بشكل سريع يزداد معه التضخم بشكل جنوني، ولا هو يتباطأ كثيرا حتى يقع في دائرة الركود.
وعندما يقل الطلب، فإن النتيجة المباشرة غالبا هي زيادة البطالة، وهو ما يعني أن صانعي القرار يضطرون للاختيار بين أمرين أحلاهما مر؛ فإما التضحية بعدد من الوظائف لأجل كبح صعود الأسعار، أو الحرص على النمو الاقتصادي، بأي ثمن، وعندئذ، سيكون حتى الأشخاص العاملون أنفسهم، عاجزين عن مجاراة الأسعار في السوق.
وبحسب موقع “أنفيستو بيديا”، فإن الحكومات التي تركز على مراقبة الأسعار في السوق لا تحقق نتيجة إيجابية في كبح التضخم، وسرعان ما تجد نفسها مضطرة للبحث عن حلول أخرى أكثر جدوى.
لكن جزءا من علاج التضخم لا يعتمد على السياسات النقدية فقط بل يتوقف على مجريات الساحة الدولية وما يحصل فيها مواجهات وصراعات، ففي يوم الأربعاء، مثلا، أقفلت أسعار النفط مرتفعة، بسبب تقارير عن تراجع المخزونات الأميركية، وعزم روسيا خفض تدفقات الغاز إلى أوروبا.
الخيار الصعب
يقول الباحث والخبير الاقتصادي المتوج بجائزة نوبل في علوم الاقتصاد، بول كروغمان، إن السؤال الأبرز هو ما إذا كان إبطاء الاقتصاد سيكون قادرا على كبح التضخم، سواء أسميناه ركودا أو أننا لم نعتبره كذلك. ثم أضاف أن هناك بارقة أمل، رغم الوضع الحالي.
يوضح الخبير أنه في الولايات المتحدة، مثلا، بدأت الأسعار فعلا في التراجع، فسعر المحروقات تراجع بمتوسط 80 سنتا مقارنة بما كان عليه في ذروة الزيادة خلال أواسط يونيو الماضي.
ورغم مواصلة عدة شركات خاصة في الولايات المتحدة رفع الأسعار، يقول كروغمان، إن الوقت ما يزال مبكرا للحكم على مآل الأمور والقول بأننا انتصرنا على التضخم.
ويبدي الخبير الاقتصادي اتفاقه مع السياسة التي لجأ إليها مجلس الاحتياطي الفيدرالي، حتى وإن كان كثيرون يبدون مخاوفهم من أن تؤدي إلى ارتفاع في معدل البطالة بالبلاد.
ويشير كروغمان في الوقت نفسه، إلى ما يصفه البعض بالتضخم الضمني أو المضمر أي التضخم الذي لن يكون خفضه سهلا أو حتى ممكنا في الفترة المقبلة، في إشارة إلى أن بعض الأسعار قد تتوقف عن الارتفاع أو أنها ستنخفض إلى حد، لكنها لن تعود إلى مستوى كان مريحا لجيوب الكثير من المستهلكين.
وإذا كانت الولايات المتحدة، وهي صاحبة أقوى اقتصاد على الأرض، تتحرك على أكثر من واجهة من أجل كبح التضخم، فإن دولا كثيرة أخرى، لا سيما النامية، لا تملك رفاهية “الاختيار” وتظل مرتهنة بما يمكن أن يحمله المستقبل ومن يحددون ملامحه في الخارج.
ولعل ما حدث في سريلانكا، مؤخرا، من اضطرابات سياسية انتهت بفرار رئيس البلاد إلى الخارج، وسط أزمة اقتصادية حادة، كان “جرس إنذار”، حسب كثيرين، في ظل تفاقم أزمات الغذاء والمحروقات، حتى أصبحت دول كثيرة غير قادرة على ضمان خدمات وسلع ضرورية.