لماذا تضن علينا الحياة بالسعادة؟ لماذا تحرمنا منها، بل وتحرمنا من أبسط الأشياء فى حين تمنح آخرين كل شىء؟! أسأل وأكتب وأنا لا أعرف سبباً لكل ذلك الشقاء الذى أعيشه منذ أكثر من خمسة أعوام.. أنا سيدة فى العقد الثالث من عمرى، أنتمى إلى أسرة بسيطة للغاية، والدى الذى قضى حياته عاملاً باليومية ليوفر لى ولأشقائى الستة قوت اليوم لم يقصّر يوماً فى تلبية مطالبنا التى لم تترك له لحظة يهنأ فيها، ووالدتى ربة المنزل الصبورة لم تبخل علينا بجهد تبذله لتحول الغرفة الصغيرة التى نسكنها فى أحد الأحياء الشعبية إلى جنة.. لكن ضيق العيش كان يؤرق حياتنا، ويُفسد علينا ما نعيشه منها.
كبرنا جميعاً، وتعلمنا فى المدارس راضين بما قسمه الله لنا من التعليم، فحصلت أنا على دبلوم تجارة، وحصل أشقائى على تعليم متوسط، وراح الجميع يطرق أبواب الحياة، لعله يظفر منها بحظ آخر.. وجلست أنا فى الغرفة أنتظر «عَدَلى»، ولم يطل بى المقام، إذ طرق باب بيتنا أحد جيراننا، ابن ناس طيبين، وظروفه تناسب ظروفى، يحمل مؤهلاً متوسطاً، لا يسمح له بأكثر من وظيفة صبى جزار، يعمل فى المواسم، ويرتاح طوال العام إذا لم تُطلب منه أى مهمة أخرى.
فرحت بعرض الزواج الذى كان متضمناً الانتقال من غرفتنا الصغيرة إلى شقة صغيرة أيضاً، صحيح أنها مستأجرة طبقاً لقانون الإيجار الجديد، لكنها شقة على أى حال، مفروشة بعناية، بها غرفة نوم وأنتريه ومطبخ وحمام مستقل، بدت الحياة وكأنها تبتسم لى للمرة الأولى، رحت أُمنِّى نفسى بعيشة هنية، وراحة بال، واستقبلت حياتى الجديدة متفائلة وفاتحة ذراعيّ للدنيا. غير أن الدنيا أبت أن تُكمل سعادتى على خير، بمرور الأيام واستقبالى لأول طفل بعد الزواج تبدّل حال زوجى، لاحظت عليه كثرة سهره وغيابه خارج المنزل، وحالة الإعياء المصاحبة له كلما عاد للبيت بعد ليلة طويلة من السهر، سألته فادّعى انشغاله بأعمال موسمية يحاول أن يسد بأجرتها متطلبات حياتنا اليومية من إيجار المسكن وتكاليف الطعام والشراب، ومع مرور الوقت بدأت ألاحظ تدهوراً فى صحته، مصحوباً بشح فى النقود، ثم اختفائها تماماً للدرجة التى أنذرت بعجزنا عن دفع إيجار الشقة، والتقطت أذناى أخبار زوجى من رفاقه فى المنطقة التى نسكن بها، فعلمت منهم أنه «بيضرب برشام»، ويتعاطى المواد المخدرة، بل وينفق عليها كل ما يتحصّل عليه من عمله باليومية.
اسودّت الدنيا فى وجهى، وزاد من كآبتى حملى للمرة الثانية، فقد أصبح علىَّ عبء توفير الطعام لذلك الذى سيأتى عما قليل إلى الدنيا، أما الموجود عليها بالفعل فطلباته لا تنتهى، واجهت زوجى بما عرفته عنه، فلم ينكر، وإن كان أبدى أسفه وندمه لسلوكه ذلك الطريق الوعر، الذى لا يعرف منه خلاصاً، لم يكن أمامى إلا أن ألجأ لوالدته، السيدة الطيبة التى فُجعت لمصير ابنها الأليم، فجلستْ معه بدورها لتنصحه بالبعد عن تلك الحياة ونبذها، وبالفعل اعترف زوجى بخطئه، طالباً منا أن نساعده فى الخروج من الفخ الذى سقط فيه، ومبدياً تعهدات بعدم العودة مرة أخرى لطريق الإدمان.
اقترضنا من «طوب الأرض» حتى نوفر مصاريف علاج زوجى فى مستشفى حكومى، والحق يقال إن والدته لم تتخلَّ عنى لحظة واحدة رغم ضيق ذات يدها، فتحمّلت بشجاعة نادرة مصاريفنا وإيجار المنزل، ويعلم الله وحده كيف كانت تدبّر احتياجاتها واحتياجاتنا معاً، وزاد الحمل بولادتى واستقبالى طفلتى الثانية، خرج زوجى من المستشفى وقد برأ من مرضه، معاهداً الله على ألا يعود لطريق الإدمان مرة أخرى، بعد أن أكل علاجُه منا الأخضر واليابس، وانتظرت أن يعود زوجى لعمله فيحمل عن والدته مسئولية إطعامنا، لكن للأسف كما يقولون «رجعت ريما لعادتها القديمة»، فعاد زوجى بكامل اختياره لطريق الإدمان، دون أن يشعر بالمسئولية تجاهنا، أو تجاه أمه التى كاد الحزن يعتصر قلبها.
لم يصبح أمامى سوى أن أتحرك لأعمل بمؤهلى المتوسط، تاركة أولادى فى رعاية أمى، خرجت للعمل لأنفق على المنزل، بعد أن رفع زوجى يده عن حياتنا وتفرغ لإنفاق الجنيهات القليلة التى يتحصل عليها من عمله على مزاجه الشخصى، واجهت قسوة الحياة التى كشرت لى عن أنيابها، فصرت أخرج كل يوم للعمل، وأعود آخر الليل مجهدة متعبة لأحاول أن ألبِّى طلبات الصغار التى لا تنتهى، وفشلت كل محاولاتى مع زوجى لإعادته للطريق القويم مرة أخرى.
أنا الآن أعيش أسوأ أيام حياتى على الإطلاق، تربيت فى بيت أهلى على أن الزوجة الأصيلة هى التى لا تتخلى عن زوجها وقت الشدة، فتتحمل معه مرارة العيش قبل حلاوتها، وصحيح أننى ذقت معه طعم الأيام السعيدة، وعرفت معنى أن يكون الزوج مسئولاً عن البيت والأسرة، لكنه اليوم يهد كل ما بناه من قبل، بل ويتركنا فريسة لمستقبل مظلم، ويعرّض أولادنا لصدمات مريرة وهم يرونه يعود للمنزل مترنحاً، أو يشاهدونه وقد افترسه الإعياء.. والسؤال الذى ينغص علىّ عيشتى: هل أترك زوجى يواجه مصيره الذى اختاره بنفسه، أم أكمل معه رحلة حياتنا وأرضى بما قسمه الله لى؟ مع العلم أن كل محاولاتى لمساعدته على الإقلاع عن الإدمان باءت بالفشل.
م.ط القاهرة
بالتأكيد يصلنا صوتك حين تتكلم أو تشكو أو تعترض.. ربما تحتاج أن تأخذ القرار.. أن تتكلم بالفعل.. تبوح وتفضفض، وتفتح قلبك لتزيح عنه ما يجثم عليه فيتعبك، ويحرمك من الاستمتاع باللحظات الحلوة.. ضع حملك الذى أنقض ظهرك.. ً فى الفضاء الواسع.. دورنا هو أن نأخذ بيدك لتتجاوز المطبات، وتعبر بر الأمان، واترك لروحك العنان حتى تحلق خفيفةً أن ّر دائماوحتى لو تعثرت وسقطت، فواجبنا أن نساعدك على النهوض نافضين عن ثوبك كل ما علق به من الأتربة.. وتذكالعمر قصير، والسنوات كالثيران الهائجة.. تنطلق بلا توقف، فعشها كما ينبغى، وكما تريد أنت، لا كما يريد لك الآخرون.
الرد
حكايتك يا صديقتى مربكة بكل معنى الكلمة، فزوجك كما تقولين اختار الطريق الصعب ليسير فيه، ضارباً عرض الحائط بكل ما أهدته له الحياة من نعم.. زوجة طيبة وصبورة مثلك، وأطفال رائعين، وأم حنونة وكريمة، ولم ينظر سوى لمتعة شخصية تمنحه سعادة وقتية سرعان ما تزول مخلفة وراءها الألم والحيرة.
والحق أننى لا أجد لأسئلتك إجابة، فأخشى أن أنصحك بتركه فيكون ذلك بمثابة الدفعة التى يحتاجها زوجك ليسقط فى قاع بئر لا خروج منها، كما أخشى أن أنصحك بمواصلة العيش معه فتعرّضى حياة أطفالك للخطر، كما يزداد شعورك بالنقمة والضيق.
ليس هناك أسوأ من أن نيأس ونتخيل حياتنا وقد تحولت إلى حائط سد، بالتأكيد هناك دائماً فرصة للخروج من الأنفاق المظلمة، وهناك دائماً فرص تمنحها لنا الحياة لنعوّض ما فاتنا منها، كل ما هو مطلوب منا أن نحاول ولا نيأس، طالما تتردد الأنفاس فى صدورنا، وطالما ننعم بالحياة التى وهبها لنا الخالق.. لكنى كما قلت لك أشعر أن حكايتك مربكة ومعقدة، والإجابة عن أسئلتك صعبة، لذلك أقترح عليك أن نعرض حكايتك على قرائنا فيشاركونا رأيهم فى حلها، ربما نجد فى آرائهم ما يرشدك إلى الطريق القويم، ويرد زوجك عن السير فى الطريق الوعر.