دراسة جديدة حول «العدوان الصامت» على الأطفال
القاهرة: د. هاني رمزي عوض
كشفت أحدث دراسة تناولت التنمر (bullying) وأثره النفسي على المراهقين والأطفال، عن مفاجأة كبيرة فيما يتعلق بالشكل الأكثر انتشاراً للتنمر. وأوضحت أنه ليس الأذى الجسدي كما يتصور معظم الناس، أو حتى السخرية والتطاول اللفظي، ولكن التجاهل التام وفرض العزلة الاجتماعية على الطفل الضحية. وهو شكل أكثر خطورة لعدم ملاحظته بشكل كافٍ مثل بقية الأشكال المتعارف عليها للتنمر، إضافة إلى أن الأطفال الذين يمارسون هذا النوع من التنمر لا يشعرون بالقدر نفسه من الذنب.
«عدوان صامت»
ذكرت الدراسة التي أجراها باحثون من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة، ونشرت في نهاية شهر أغسطس (آب) من العام الجاري، في دورية «منع الفشل الدراسي: إيجاد بدائل للمراهقين والشباب» (Preventing School Failure: Alternative Education for Children and Youth)، أن سلوك الاستبعاد يمكن وصفه بالعدوان الصامت أو العنف عن طريق العلاقات الاجتماعية، من خلال تجنيب الضحية المشارَكة في العلاقات الطبيعية في البيئة المحيطة؛ سواء كانت بيئة حقيقية مثل المدرسة أو النادي، أو حتى بيئة افتراضية مثل صفحات التواصل الاجتماعي أو برامج المحادثات الجماعية على الأجهزة المحمولة.
وأشار الباحثون إلى خطورة هذا النوع على الحالة النفسية للطفل أو المراهق لعدم تمكنه من الشكوى؛ حيث لا وجود للأذى. وعلى سبيل المثال، في حالة إرسال رسالة في مجموعة فإنه لا يتم الرد بالسلب أو بالإيجاب، ومن ثم لا يمكن للطفل أن يبلغ عن تعرضه لسخرية أو سباب أو محاولة الحط من قدره بأي شكل، بجانب إحساس الخجل لديه من طلب الاهتمام، مما يفاقم المشكلة. وقال الباحثون إن أثر الاستبعاد الاجتماعي يماثل الأثر المادي للركل أو الضرب أو السباب.
حلل الباحثون البيانات الخاصة بأكثر من 14 ألف طالب من 26 مدرسة لمراحل التعليم المختلفة في الولايات المتحدة الأميركية، واهتموا بشكل خاص بالمراحل التعليمية المتوسطة والثانوية. وتم طرح أسئلة على الطلاب حول رأيهم في عبارات معينة، ولأي مدى يوافقون أو لا يوافقون على هذه العبارات، والتي في مجملها تعكس المواقف المؤيدة للتنمر؛ سواء بالشكل المباشر من خلال الأذى الفعلي أو النفسي أو الاستبعاد الاجتماعي.
الاستبعاد والعزل
شملت هذه العبارات جُملاً لمعرفة رد فعل الأطفال، ما دام الفعل غير ضار بدنياً، وعلى سبيل المثال: «القليل من المضايقة أو الدعابة الثقيلة لا يؤذي أحداً»، وأيضاً: «لا يهمني معنى الأشياء التي يقولها الأطفال الآخرون لطفل معين ما دام لا يتعلق بي». وشملت عبارات توضح التصور عن الذات والقيادة، مثل: «في مجموعتي من الأصدقاء، عادة ما أكون الشخص الوحيد الذي يتخذ القرارات»، وأيضاً عبارات بشكل واضح عن الاستبعاد، مثل: «عندما أكون غاضباً من شخص ما، لا أعود إليه ولا أسمح له بالبقاء في مجموعتي»، بجانب: «لا أريد الرد على شخص لا أحبه».
أظهرت النتائج أن المجموعة الأولى من الأطفال الذين يعتبرون أنفسهم مهمين اجتماعياً، أو يتمتعون بشهرة بين الأصدقاء، في الأغلب يؤيدون المواقف المؤيدة للتنمر. ومع ذلك فهم لا يرون أنفسهم ممارسين عدواناً اجتماعياً على شخص ما، أو يقومون بأي نوع من الأذى على أي مستوى (ومن هنا خطورة الأمر).
كما أظهرت النتائج أيضاً أن أفراد مجموعة ثانية من الطلاب لم يعتبروا أنفسهم مهمين اجتماعياً أو مشهورين، كان لهم الموقف نفسه المؤيد للتنمر الاجتماعي المستتر والعدوان بالاستبعاد. وهو ما يشير إلى شيوع هذا الموقف بين الطلاب. وكانت هناك مجموعة ثالثة اعتبروا أن التنمر سلوك سيئ، حتى لو كان غير مباشر، وأيضاً لم يكونوا مؤيدين للاستبعاد الاجتماعي.
أوضح الباحثون أن المجموعة الأولى من الأطفال اعتقدوا أن الاستبعاد أمر جيد للتخلي عن العناصر الأقل في المستوى؛ سواء الاجتماعي أو الدراسي، ولذلك يعتبرون التنمر نوعاً من الضرورة المجتمعية، بينما كانت المجموعة الثانية مؤيدة للتنمر رغبة في مسايرة الجماعة المتنمرة، حتى لا يتعرضوا للاستبعاد الذي يتعرض له الطفل الضحية. وفي المقابل اعتقد أطفال المجموعة الثالثة أن التنمر سلوك سيئ في حد ذاته، حتى لو حقق لهم مكاسب اجتماعية.
حذر الباحثون من خطورة الحياد في التنمر الاجتماعي، بمعنى أن الذين يمكن اعتبارهم مجرد متفرجين غالباً هم من يشجعون على التنمر؛ لأنهم يقدمون الدعم المجتمعي للمتنمر. وعلى سبيل المثال في حالة رؤية طفلين في شجار جسدي يكون هناك شعور بالالتزام بإنهاء هذا الشجار؛ لكن عندما نرى الأطفال يتم استبعادهم من قبل أقرانهم، فلا يبدو أن البالغين دائماً ينظرون إلى الأمر على أنه ضار بالقدر نفسه، وهو أمر بالغ الخطورة.
نصحت الدراسة بضرورة أن تتضمن المناهج الدراسية مهارات التواصل الاجتماعي، لمساعدة الأطفال الذين يعانون من الخجل أو العزلة، بجانب وضع مشروعات اجتماعية يشارك فيها الطلاب جميعاً تحت إشراف المدرسين، أي على سبيل المثال: حلقات نقاش حول الموضوعات المختلفة، دراسية أو حياتية، مع الحرص على أن يتم إشراك جميع الطلاب في الحديث؛ خصوصاً الذين يمكن أن يكونوا عرضة للتنمر، مثل من يعانون من التلعثم أو من البدانة أو النحافة الزائدة.
كما يجب أن يقوم الآباء بملاحظة الحالة النفسية لأطفالهم، وحتى في عدم شكوى الطفل من الأذى المباشر يجب أن يقوموا بسؤال أطفالهم عن حياتهم الاجتماعية في المدرسة، وإذا كان لديهم أصدقاء من عدمه لمواجهة التنمر الصامت.
* استشاري طب الأطفال