فعهد الخديوى إسماعيل، الذى تمر اليوم ذكرى رحيله، إذ رحل عن عالمنا 2 مارس من عام 1895م، بأمر إصلاحها إلى أدهم باشا — وهو ثاني من تولى وزارة المعارف بالقطر المصري في عهد (محمد علي) الكبير، واستمر على دفتها، بعد وفاة مصطفى بك مختار، أول وزير لها، عشر سنوات؛ أي: من سنة 1839 إلى سنة 1849 — وأقبل ينشئ خلافها بهمته العالية، فتأسست في سنة 1864 مدرسة رأس التين، بجوار السراي الخديوية بالإسكندرية؛ ومدرسة الناصرية بمصر، في الشارع الموصل من عابدين إلى مسجد السيدة زينب، مكان القصرين اللذين كانا للأميرين المملوكين حسن كاشف وقاسم بك، في أيام الحملة الفرنساوية، وخصصا بالجمعية العلمية المعروفة باسم “الانستتنيوت” حيث كان يجتمع بونابرت وكليبر وفوربي ومونج والتسعون عالمًا الآخرون، الذين رافقوا تلك الحملة، وأنشأوا مجموعة الكتب العلمية الخصيصة بمصر، التي كانت من أكبر أسباب إعادة الحياة إليها، حسب ما ذكر إلياس الأيوبى فى كتابه “تاريخ مصر فى عهد الخديوى إسماعيل”.
وظهرت المدرستان المذكورتان بمظهر جديد لم يعهده معهد علمي مطلقًا من المعاهد السابقة وتجلتا — الأولى تحت إدارة ناظرها أحمد بك فتحي، والثانية تحت إدارة ناظرها برعي أفندي — عنوان النظافة التامة والنظام الكامل، وعلمت فيهما العربية، والفرنساوية، والإنجليزية، والألمانية، والجغرافيا، والرسم الخطي، والحساب العادي، والحساب العالي، والقرآن لغاية الفرقة الرابعة، والتركية بدله من الفرقة الرابعة فما فوق.
وانتظم الطلبة في سلكيهما، قسمين: داخلية وخارجية. على أنهم كانوا يتغدون جميعًا في غرفتي طعام عظيمتين، عدا أبناء البيكوات والباشاوات في مدرسة الناصرية فإنهم كانوا يأكلون على حدة.
وفي سنة 1865 تأسست ببنها، في سراي (عباس الأول)، مدرسة عظيمة حوت ثلاثمائة طالب يعلمهم أحد عشر أستاذًا؛ ومدرسة أخرى ببني سويف؛ وغيرها بالمنيا، وسادسة بأسيوط، وحوت كلها نيفًا وستمائة وواحد وثلاثين طالبًا، منهم 502 داخلية.
وبسبب الاتساع الرائع، الذي اتخذته الصناعة المصرية على أثر ارتفاع الأسعار القطنية الناجم عن الحرب الأهلية الأمريكية، قرر (إسماعيل) في سنة 1865عينها إنشاء مدرسة للفنون والصنائع، فوضع نوبار باشا نظامها بمساعدة فني فرنساوي، يقال له: المسيو مونييه: ولكن الكوليرا أوقف نموّها وحال دون انتظامها، ثم شغلت الأفكار عنها بالمشاغل السياسية التي أفعمت بها سنة 1866 بيد أنه ما وافت السنة التالية إلا وعاد شريف باشا — وكان ناظرًا للمعارف — إلى موضوعها، ووفاه حقه.
ففتحت المدرسة أبوابها في سنة 1867 تحت إدارة فرنساوي خبير يقال له: المسيو إلواجي جون؛ ودرس فيها أحد عشر أستاذًا وعريفًا؛ وجعلت مدة التعليم فيها ثلاث سنوات، أولًا، ثم خمسًا، وشمل البرنامج: الرياضة، والكيمياء، والرسم، والتوپوغرافيا، والفرنساوي، والإنجليزي، والهندسة، وكل صنعة وحرفة.
ولما كانت الألفاظ الفرنجية الإصلاحية، الخاصة بالفنون والصنائع، غير متداولة على الألسن إلا قليلًا، ولا يعرف إلا القليلون جدًّا مقابلاتها العربية، ألف المدير، الواجي جون المذكور، قاموسًا فرنساويًّا إنجليزيًّا عربيًّا لها، يجدر بمكتبة كل ذي فن وصناعة الازديان به.
وفي سنة 1876 أنشئت ثلاث مدارس صناعية غيرها، ليحول إليها التلامذة البلداء في المدارس الابتدائية، بدلًا من تحويلهم إلى المدارس الحربية، فيتعلمون فيها، مدة خمس سنوات، صنائع يتعيشون منها في مستقبل حياتهم، وكانت تباع المصنوعات، التي يصنعونها في مدة دراستهم، ويحفظ ثمنها على ذمتهم، ثم يُشترى بها أدوات صناعية، وآلات لكل منهم تصرف إليه حين مغادرته المدرسة، ليدخل ميدان الحياة وهو متسلح بها.
وأنشئت في هذه المدة عينها، في العباسية، مدرسة أولية، ومدرسة إعدادية، خلاف جملة مدارس عسكرية وحربية سيأتي الكلام عليها في غير هذا المكان، وتلا ذلك إنشاء مدرسة هندسية ملكية كبرى، عرفت باسم “المدرسة البوليتكنيك” وأحضرت إليها الأساتذة من فرنسا ومن ضمنهم المسيو چليون دانجلار، صاحب الرسالات الممتعة عن مصر ما بين سنة 1865 وسنة 1875 وعهد بمساعدتهم إلى أساتذة مصريين، من الذين تعلموا بفرنسا على نفقة الحكومة.
وكانت المجانية أساس التعليم، في هذه المدارس كافة، وتشمل الكسوة والطعام أيضًا، غير أن هذا جميعه لم يكن سوى باكورة العمل، فسرعان ما أدرك الخديوي أن إنشاء بضع مدارس، مستقلة الواحدة عن الأخرى، قليلًا أو كثيرًا، ومشتغلة كل منها على حدة، بدون ارتباط بغيرها، وببرنامج خصيص بها، لا يؤدِّي إلى ما يرمي إليه من تعميم التعليم ونشره بين أفراد أمته، فكلف لجنة تحت إدارة علي باشا مبارك ناظر المعارف والأشغال العمومية، منذ 15 أبريل سنة 1868 بوضع قانون أساسي للتعليم العام، تكون المدارس، بموجبه، كلًّا منظمًا ذا أجزاء مندمج بعضها في بعض.
فاشتغلت تلك اللجنة بهمة وعزيمة صادقة، وأخرجت، إلى حيز الوجود، اللائحة المعروفة باسم «لائحة 10 رجب سنة 1284» وهي لائحة ذات أربعين بندًا مبنية على مبدأين أساسيين، هما: تضامن جميع المدارس في نظامها وتعليمها؛ ومساواة المعاهد التي من درجة واحدة مساواة تامة في جميع الأمور.
فقسمت المدارس إلى ثلاثة أقسام: ابتدائية — وهي الكتاتيب ومدارس المديريات — وثانوية، وعالية؛ خلاف المدارس الخاصة.
أما الكتاتيب — وقد كانت نيفًا وخمسة آلاف، وبقيت لسنة 1874 مستقلة عن الحكومة، بطلابها الزائد عددهم على المائة والعشرين ألفًا، وفقهائها الذين كان معظمهم من العميان — فإن اللائحة لم تدخل، على المنتشرة منها في القرى، تعديلات محسوسة، غير إلزامها بتعليم الحساب، ولكنها شدَّدت على ذات المركز المهم منها، برفع مستوى التلامذة العقلي، لكي تؤهلهم للدخول في مدارس أعلى منها درجة؛ كما أنها شدَّدت عليها بالصيرورة إلى مدارس ابتدائية حقيقية؛ وذلك بما وضعت من تعليمات وإرشادات للفقهاء فيها، وبما قرَّرته لها من كتب، وأدوات مدرسية، وإدخال تعليم لغة أجنبية ومبادئ الجغرافيا والتاريخ على برنامجها.
وأما مدارس المديريات — وهي مدارس ابتدائية حقة — فإن اللائحة المذكورة قرَّرت تعميم إنشائها في بنادر المديريات كافة، على نظام مثيلاتها في أوروبا؛ وجعلت برنامج التعليم فيها كالآتي؛ القرآن، العربي، الفرنساوي أو الإنجليزي، الحساب، التاريخ، الهندسة، الرسم؛ وجعلت الأصل فيه المجانية المطلقة، سواء في ذلك الطلبة الداخلية والطلبة الخارجية.
وأما المدارس الثانوية، فتقرر أن تكون سبعًا: ثلاثًا في مديريات الوجه البحري، وأربعًا في مديريات الوجه القبلي؛ وأن تكون المجانية المطلقة الأصل في التعليم فيها أيضًا.
وأما المدارس العالية، فجعلت تسعًا: ثمان منها في مصر، وواحدة بالإسكندرية، وكانت أهمها كلها مدرسة الپوليتكنيك ومدرسة الطب.
أما الپوليتكنيك — وكان يقال لها أيضًا مدرسة المهندسخانة — فقد أنشئت أولًا في العباسية، ثم نقلت إلى درب الجماميز، في سراي الأمير مصطفى فاضل، أخي الخديو، حيث كان مقر وزارة المعارف؛ وكان تلامذتها الستون كلهم داخلية، ويتعلمون، في ست سنوات: الرياضة العليا، والكيميا، والطبيعة، والچيولوجيا، والميكانيكية، والعربي، والفرنساوي أو الإنجليزي، والجغرافيا، والتاريخ، والرسم، وكان النابغون في الرسم كثيرين، ولا غرابة: فمصري اليوم إنما هو حفيد مصري العهد الفرعوني.
ولما كانت تلك السراي واسعة جدًّا، فقد نقلت إليها مدرسة الإدارة، وعدد طلبتها خمسون، ومدرسة المحاسبة والمساحة، ومدرسة اللغات، والمدرسة التجهيزية وطلبتها خمسمائة وخمسون، معظمهم خارجية.
ووجد، مع ذلك، متسع لمسرح فسيح، كانت تقام فيه الامتحانات العامة السنوية العلنية؛ ولمكتبة نفيسة، أنشأها في سنة 1871 علي باشا مبارك، ورتبها في ست حجر؛ وكانت فيها طائفة من كتب مكتوبة بخط اليد في لغات متعددة لا سيما العربية؛ وأهمها نسخ قرآنية وجدت على قبور مؤسسي المساجد من سلاطين مصر السالفين، وكانت ذات أهمية تاريخية عظيمة؛ لأن الواحدة منها كتبت ووضعت على قبر مؤسس المسجد في بحر السنة التالية لموته؛ فكانت تدل على تطور الخط العربي، على ممر الأيام؛ وتساعد على تحقيق عصر بناء تلك المساجد، والتثبت من مواقيت التاريخ العربي.
وأنشئ، في تلك السراي، أيضًا في 12 يوليو سنة 1871 معمل طبيعيات، تام الأدوات، يضاهي أكبر المعامل الأوروبية التي من نوعه.
وإنما ذكرنا المعمل والمكتبة والمسرح، عند كلامنا على مدرسة الپوليتكنيك، لاقترانها بها في فكر عموم مصريي ذلك العهد، بسبب وجودها معًا في محل واحد.
وأما مدرسة الطب — وقد قلنا كيف تأسست وألغيت ثم أعيدت إلى الوجود — فلم يكن لها من مثيلة في الشرق كله؛ وكانت تنقسم إلى قسمين: قسم الطب والجراحة، وقسم الصيدلة، ومدة التدريس في كل منهما خمس سنوات: منها سنتان لإعادة العلوم الأدبية، المعلمة في المدارس الثانوية وإتمامها؛ والثلاث السنوات الباقية، للطب والصيدلة، وكان عدد طلبتها، في سنة 1876 مائة وخمسون وتسعين طالبًا، كلهم داخلية ما عدا عشرين، وبما أن تعليم التلامذة الداخلية، وطعامهم، ولبسهم، ومقامهم، كتعليم الخارجية، كان مجانًا، فإن تخريج الطبيب الواحد كان يكلف الحكومة ثلاثة عشر ألف فرنك، وتخريج الصيدلي الواحد أربعة عشر ألف وخمسمائة فرنك؛ ولذا فإن الداخلية كانوا يلزمون بالاستخدام في الحكومة، بعد نيلهم دبلوم الطب أو الصيدلة، وأما الخارجية فكانوا أحرارَا.
المصدر : اليوم السابع