واجهت «الدولة الوطنية» العربية، خلال السنوات العشر الماضية، أو أكثر قليلاً، تهديدات كبيرة وصلت إلى حد سقوط الحكومات والمؤسسات فى بعض الدول، وانتشار الفوضى الداخلية والتحارب الأهلى المسلح، فضلاً عن صعود الجماعات الإرهابية والتنظيمات الخارجة على الدستور والقانون. وأمام ذلك لا تزال تعمل بعض الدول على محاولات إعادة بناء مؤسساتها واستعادة أمنها واستقرارها، فيما تسارع الأخرى، الأفضل حالاً، إلى إطلاق وتطبيق الخطط الاستراتيجية الساعية للتحديث والتطوير وتلبية احتياجات وآمال مجتمعاتها.
خبراء ومثقفون عرب من جنسيات مختلفة اتفقوا على أن «الدولة الوطنية الحديثة» باتت هى المعركة الرئيسية التى تخوضها جميع البلدان العربية من المحيط إلى الخليج بتطلعات مختلفة وظروف متباينة، مؤكدين أن «الدولة العربية»، بمفهومها الوطنى الحديث، واجهت حرباً متعمدة لكسرها خلال العقدين الماضيين، بهدف تقسيم المنطقة وإغراقها فى الفوضى وتمرير بعض المشروعات التى تخدم قوى إقليمية ودولية على حساب أمن واستقرار المنطقة، وأشاروا إلى أن الإرهاب والطائفية والتنمية والاستقرار السياسى أبرز التحديات فى المرحلة الراهنة.
الدكتور على الدين هلال، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وزير الشباب الأسبق فى مصر بين 1999 إلى 2004، يرى أن الدولة الوطنية الحديثة من الناحية الأكاديمية تعنى «الدولة التى يحكمها الدستور والقانون وتديرها مؤسسات وطنية مستقرة وتقوم على أساس المواطنة واحترام التنوع وتلبى احتياجات وتطلعات شعبها».
أشار إلى أن هذا الحلم ليس وليد اليوم، إذ عرفت مصر الدولة الوطنية الحديثة وحلم التحديث والتطوير منذ بداية القرن التاسع عشر، إلا أن هناك تغييرات عاشتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة أعادت من جديد هذا المفهوم إلى المشهد فى مصر والعديد من البلدان العربية.
«هلال»: مصر تعرضت لخطر ذوبان الهوية إبان حكم «الإخوان»..وقيادتنا ثبتت أركان الدولة بالبناء والتحديث
وأوضح «هلال»، لـ«الوطن»، أن مصر قبل 10 سنوات من الآن، وتحديداً بين عامى 2012 و2013، واجهت 3 أخطار كبرى، أولها التطرف والإرهاب، وثانيها سيادة منطق الجماعة على منطق الدولة، أما الخطر الثالث فهو ذوبان الهوية المصرية الوطنية فى سياقات أكبر، سواء دينية أو شرق أوسطية، على حساب الهوية المصرية، إلا أن الدولة نجحت فى التغلب على الأخطار الثلاثة من خلال عملية بناء وتحديث وتثبيت لأركان الدولة وحماية الهوية بتنويعاتها على مدار السنوات الثمانى الماضية.
ويرى المفكر اللبنانى رضوان السيد، عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية فى أبوظبى، أن المنطقة العربية يسودها فى الوقت الحالى مشهدان متناقضان، الأول لدول وأنظمة مستقرة يبرز فيها مفهوم الدولة الوطنية الحديثة التى تحكمها مؤسسات وطنية مستقرة بعيداً عن الطائفية والتشدد والانقسامات، والثانى لدول تعانى من انقسامات حادة وتحارب أهلى وفوضى داخلية.
«السيد»: نعاصر مشهدين متناقضين فى منطقتنا.. دول تنعم بمستقبل مشرق وأخرى على حافة الانهيار
وأضاف «السيد»: «مفهوم الدولة الوطنية واضح فى المشهد الأول مثل الإمارات والسعودية ومصر والكويت والجزائر وتونس، حتى لو كانت هناك تحديات جسيمة سياسية أو اقتصادية أو آمال نحو مستقبل أكثر إشراقاً، أما فى المشهد الثانى فالدولة الوطنية الحديثة بمثابة حلم ما زال بعيد المنال حتى اليوم، حيث تعانى الدولة من مشكلات بنيوية تؤدى للانقسام والتفكك أكثر مما تؤدى للاستقرار والتماسك، كما الحال فى اليمن وليبيا وسوريا ولبنان والعراق».
وتاريخياً، يرى السيد زهرة، المتخصص فى الشئون العربية والسياسية، الكاتب الصحفى بجريدة أخبار الخليج البحرينية، أن أسباب عدة، يرجع بعضها لأكثر من مائة عام، شكلت جوهر أزمة الدول العربية التى قادت إلى الأوضاع الراهنة.
وبيّن مقومات حجته فى نص الورقة المقدمة فى ندوة «تحالف عاصفة الفكر» فى أبوظبى، بأنه «منذ نشأة الدولة العربية الحديثة، وطوال العقود التالية فى حقبة ما بعد الاستقلال، فإن عملية بناء الدولة لم تكتمل حتى يومنا هذا، منذ نشأة الدولة الوطنية العربية، وعلى امتداد العقود التالية، فإن قضايا كبرى تتعلق بصلب عملية بناء الدولة لم تُحسم أبداً».
وأكمل: «نعنى هنا، ومن دون أى تفاصيل، قضايا من قبيل: العلاقة بين الدين والدولة، والعلاقة بين الدين والسياسة، وضع الطوائف والأقليات فى الدول العربية وكيفية التعامل مع هذه القضية، علاقة الوطنية بالعروبة، أى علاقة الانتماء القطرى بالانتماء القومى العربى، وعلاقة الدولة القطرية العربية بآمال ومطالب التوحيد العربى».
وأضاف «زهرة»: «تواجه الدولة الوطنية العربية اليوم أزمة عاصفة، فمنذ سنوات تواجه الدولة تحديات وأخطاراً هى الأكبر منذ نشأتها، الدولة الوطنية العربية تتعرض لحرب شرسة من الداخل ومن الخارج، وهى حرب وجودية بمعنى الكلمة تستهدف وجود الدولة الوطنية العربية ذاته، أى تستهدف تفكيكها والقضاء عليها»، معتبراً أن الدول العربية تعرضت لما وصفه بـ«مؤامرة كبرى» فى عامى 2011 و2012 اللذين شهدا ما يُعرف بـ«ثورات الربيع العربى»، مؤكداً أن هذه المؤامرة نجحت فى بعض الدول، وفشلت فى أخرى، لا سيما مصر والبحرين، بحسب قوله.
وحذر «زهرة» من غياب الثقافة الوطنية المدنية، وحالة ضعف الوعى العام بحسب قوله، ما يجعل من الديمقراطية أحد عوامل تفكيك وتدمير الدولة الوطنية العربية بدلاً من بناء استقرارها السياسى والاقتصادى.
وقال الدكتور السيد ولد أباه، الأستاذ بقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية بجامعة نواكشوط فى موريتانيا، لـ«الوطن»، إن العالم العربى بحاجة إلى إصلاحات سياسية ومؤسسية، لإعادة بناء الدولة الوطنية العربية بما يتماشى مع ظروف العصر، مشدداً على أهمية الانتباه إلى التطوير الهيكلى فى مؤسسات الخدمة المدنية والإدارة، جنباً إلى جنب مع التطوير العسكرى وتحديث نظم المؤسسة العسكرية، باعتبارهما -المؤسسة البيروقراطية والمؤسسة العسكرية- ضمانتان لنجاح الدولة وتماسكها واستقرارها.
وأشاد «أباه» بالخطط والرؤى الاستراتيجى متوسطة وطويلة المدى التى أطلقتها العديد من البلدان العربية، مثل مصر والسعودية والإمارات وتونس، منبهاً على ضرورة الاستقرار السياسى لضمان استمرارية هذه الخطط والرؤى، بما يحدث نقلة حقيقية نحو مستقبل عربى أكثر إشراقاً. واستطرد: «نحتاج إلى ما يشبه هندسة سياسية كاملة للتعامل مع أخطر تحدٍّ نواجهه اليوم، وهو خطر انهيار الدولة الوطنية فى العديد من البلدان العربية، بما فيها بلدان محورية فاعلة فى المنطقة».